التعذيب: البيئة السياسية والإجتماعية

أطلقت هيومان رايتس ووتش تقريراً في 8 فبراير 2010 تحت عنوان: (التعذيب يُـبعث من جديد: إحياء سياسة الإكراه الجسماني أثناء الاستجواب في البحرين)، ذهب إلى تأكيد إختفاء التعذيب في البحرين منذ بدء المشروع الإصلاحي في 2001 واستمر ذلك الحال حتى نهاية عام 2007 حيث بدأت حالات التعذيب في الظهور من جديد.

لقد تمّت مناقشة قضايا عديدة متعلقة بالتقرير، وأوضحنا وجهة النظر الرسمية التي تنفي وقوع التعذيب (الممنهج) وتعد بالتحقيق في المعلومات الواردة في التقرير، وتفترض احتمالية وجود حالات فرديّة من التجاوزات. لكننا هنا، سنناقش الأسباب التي يعتقد التقرير أنها تؤدّي الى التجاوزات وبينها التعذيب، وهي تلقي الضوء على مسألة أوسع من موضوع الإنتهاكات الفردية، لتبحث في البيئة السياسية والإجتماعية والتشريعية، مع أن التقرير قدّمها بدون شروحات، ولو تمّ شرحها، لكان التقرير قد قدّم خدمة إضافية للمهتمين بالوضع الحقوقي البحريني. سنتوقف هنا عند الأسباب، ونحاول أن نقدّم بعض الملاحظات والشروح حولها، والمعالجات التي تحتاجها البحرين لطي هذا الملف.

يعزي التقرير ظهور التعذيب من جديد في البحرين إلى (تزايد التوترات السياسية.. فالمظاهرات في الشوارع، شارك فيها شباب من الأغلبية الشيعية الإسلامية محتجين على التمييز ضدهم من قبل الحكومة.. وتدهور الحال بتصعيده بشكل متكرّر إلى مواجهات، تتخذ أحياناً طابع العنف، مع قوات الأمن). تفكيك هذا الاقتباس يشير إلى الأسباب التالية: 1/ تنامي التوترات السياسية؛ 2/ إنزال الشباب إلى الشوارع في مظاهرات؛ 3/ الاحتجاج على التمييز؛ 4/ المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن.

تزايد التوترات السياسية

التحول السياسي الديمقراطي في أي بلد يمر بمرحلة إنتقالية. ودائماً ما يكون الانتقال من مرحلة إلى أخرى مشوب بمحاذير وعقبات كأداء، وصعوبات جسام. وبحسب تحليلنا للأمر، فإن هناك عملية سياسية قائمة، تشترك فيها القوى السياسية الفاعلة، ولا تواجه العملية السياسية انسداداً، رغم أنها في بعض الجوانب قد انخفض زخمها، كما لا تواجه معارضة قويّة من داخل النظام السياسي بحيث تشلّه أو تعيقه، فضلاً عن أن العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ليست سيئة في الفترة التي يغطيها التقرير (2007-2009)، بل هي فترة تعاون أفضل مما كان في الماضي. وعليه يمكن القول بأنه ليس هناك (توتر سياسي)، بقدر ما هناك (توتر أمني) من قبل أقليّة ترفض العملية السياسية، ولا تعترف حتى بأصل النظام، وهي التي تقوم بتوتير الشارع وبالعنف والشغب وتدمير الممتلكات. ونستطيع القول بأن هذه الأقلية المتشددة بالذات، مسؤولة بقدر كبير عن تباطؤ زخم العملية السياسية، كما أنها مساهمة في الإنتهاكات لحقوق الإنسان، إما بشكل مباشر، أو كرد فعل على ممارساتها، ما يحدث معه تجاوزات من قبل قوات الأمن.

وبقدر ما هناك من يعمل على انتقال ديمقراطي سلس، هنالك بالمقابل من يحاول إعاقة هذا الإنتقال تحت شتى المسوغات، وهو ما يحدث منذ بدء إنطلاقة المشروع الإصلاحي. وفي ظل هذا الشدّ والجذب يتحول الأمر إلى صراع بين الطرفين المؤيد والمعارض، وتبرز الإنتهاكات كلازمة لتصاعد التوترات الأمنية، وهذا يشكّل تحدّياً يواجه الجميع ويضع المشروع الإصلاحي في اختبار من جهتين: الإستمرار في عملية التحول الديمقراطي؛ والمحافظة على الأمن والنظام دون تجاوز لحقوق الإنسان.

وهنا نرى بأن من الضروري الإستمرار في محاولة استيعاب المعارضة المتشددة ضمن العملية السياسية، مع إدراكنا لحقيقة أن هذه المعارضة ترفض ذلك، وأنها ليست ضد الإصلاحات والعملية السياسية فقط، وإنما أيضاً ضد النظام السياسي من أساسه. كما يتطلب الأمر تأكيد الإلتزام بالمعايير الحقوقية أثناء مواجهة الشغب والعنف في الشارع، وما يستتبع ذلك من احتجاز لمخالفي القانون، والتشديد على مسؤولي الأمن بالتزام القانون، ومحاكمة من يقوم بالتجاوزات دون إبطاء. فضلاً عن ذلك، فإن المشروع الإصلاحي بحاجة على الدوام الى خطوات جديدة تبعث فيه حيوية ودماً جديداً. القائمون على المشروع الإصلاحي ومؤيدوه مطالبون بإعادته إلى الواجهة مرةً أخرى بطريقة تستصحب التحولات الراهنة على كافة المستويات، بحيث يترجموا أهدافه إلى حراك وفعل حقيقي، يُـشعر المواطن بأن مباديء ميثاق العمل الوطني والدستور قد تمت ترجمتها إلى واقع معاش.

ستورك: لا عودة
للمربع الأول

وقال جو ستورك، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، في مؤتمر صحفي بالمنامة في 8/2/2010: (من الواضح أنه منذ مطلع القرن الحالي، بينت البحرين للعالم أنه بالإرادة السياسية يمكن وقف التعذيب، وهو ما كان جليّا في الفترة بين العامين 2001 و2006، إذ يتبين أنه كانت هناك قضايا حقوقية جديّة، ولكن لم يكن التعذيب جزءا منها). وأضاف: (لا يمكن القول إن البحرين عادت إلى المربع الأول، ولكن حين نتحدث عن عودة التعذيب، فإن هناك قضايا جدية بهذا الشأن). مشيراً الى أن (التقارير الحكومية والوثائق الطبية لا تعني العودة إلى المربع الأول، واليوم نحن نتحدث في مكان عام ومؤتمر صحافي مسموح به ولا يحتاج إلى رخصة، وبالتالي لا يوجد هناك تشابه بين ما كانت عليه الأمور قبل عشرة أعوام والآن).

إنزال الشباب إلى الشوارع في مظاهرات

لا ينبغي التصدّي لظاهرة نزول الشباب الى الشارع للتظاهر والإعتصام الذي يقع بشكل متكرر، ولا النظر الى تلك الظاهرة بصورة سلبية. ويقع عبء كبير على أجهزة الإعلام، والإخصائيين الاجتماعيين، والأكاديميين، ومسؤولي الرعاية الاجتماعية، وأجهزة رعاية الشباب والرياضة، والتشريعيين، ورجال الدين المستنيرين، والجمعيات الطلابية.. يقع عليهم عبء دراسة هذه الظاهرة وتقديم أوراق وبرامج إعلامية وتنويرية حولها. السؤال الذي يرد دائماً: لماذا التظاهرات والإعتصامات كثيرة في البحرين، ولماذا يشارك فيها أعداد كبيرة من الشباب؟ هناك أسباب سياسية واجتماعية ومعيشية ينبغي معالجتها من الجذور. ربما تكون هنالك حاجة لإقامة فعاليات وأنشطة واستحداث قنوات من أجل تحويل الطاقة الشبابية إلى مشاريع تنموية يستطيع من خلالها الشباب التعبير عن أنفسهم، والمساهمة في لعب دور حقيقي وإيجابي في بناء الوطن. ولكن الى ذلك الحين، فإن التظاهرات، إذا ما عبّر عنها سلمياً ووفق القانون، فإنها ليست بالضرورة تؤدي الى توترات أمنية. هناك مساحة من الحرية، يمكن لأيّ مواطن استخدامها وفق القانون.

الإحتجاج على التمييز

مشكلة التمييز بشتى أشكاله موجودة في كل دول العالم، وهي موجودة في البحرين، سواء تعلق الأمر بالمرأة أو العمالة الأجنبية، أو فئات إجتماعية أخرى. لكن ما قصده تقرير هيومان رايتس ووتش هو التمييز ضد الشيعة فقط. ونحن في المرصد نعتقد، بأنه ليس هناك تمييز ممنهج ضد الشيعة منذ عهد الإصلاحات، وأن هناك جهوداً حقيقية للتخلص من الإرث السابق، توضع أحياناً تحت مسمّى (إعادة التوازن السياسي والإجتماعي). الحلول كثيرة لمجابهة أي تمييز، منها على سبيل المثال (التمييز الإيجابي/ Affirmative Action)، بيد أنه لا يمكن القبول اليوم، وفي ظل العملية السياسية القائمة، أن يعتبر التمييز سبباً في التوتر الأمني، فهذه مجرد ذريعة، حيث لا توجد ملامح خطوات تمييزية جديدة تقوم بها السلطة، ولا يعتقد أن العنف والشغب في الشارع يمثل حلّاً منطقياً للتخلّص من إرث الماضي.

من جهة أخرى، وفي الوقت الذي نؤكد فيه أن التمييز يؤدي إلى حالات من الإحتقان في كثير من الأحيان، كما تشير اليه أدبيات وأجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان.. فإن النصوص المساواتية الواردة في الدستور وميثاق العمل الوطني، ليست كافية لوضع حدّ لكل أشكال التمييز، ومن هنا تنبع أهمية وجود تشريعات تجرّم التمييز بكافة أشكاله. ولكي يكون الاحتجاج على التمييز احتجاجـاً نوعياً، ينبغي أنْ تضطلع المؤسسة التشريعية بدورها كاملاً لدراسته بإستفاضة، ووضع الحلول التشريعية له. كما ينبغي أنْ يكون الاحتجاج ضد التمييز حضارياً وسلمياً من قِـبـَـل من ينظمه ويشارك فيه، وعلى الدولة أنْ تواصل إتاحة فرص الاحتجاج السلمي الذي لا يخل بالأمن الوطني.

المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن

دولة القانون تحترم جميع مكونات المجتمع دون حجر على حقوق أحد في التعبير عن آرائه السياسية سلمياً. إنَّ تنظيم المظاهرات يحتاج لإجراءات يجب اتباعها، بما فيها الحصول على الترخيص وتحديد المكان والزمن. التظاهرة الحضارية تتسم بحرص منظميها على سلامة الجميع وعلى مرافق الدولة. كما أنَّ دولة القانون تحرص على سلامة المتظاهرين وغير المتظاهرين إضافة إلى مرافق الدولة. وهذا يحتم ضرورة التنسيق بين الجهة المنظمة لأي تظاهرة، وبين السلطات المخوَّل لها الترخيص بالتظاهر. فإذا إلتزم كل طرف بأداء دوره، لن تكون هنالك مواجهات، بل ستعمل قوات الأمن على حماية المتظاهرين، كما سيشكر المتظاهرون حرص القوات الأمنية على توفير مناخ تظاهر صحي لها. هذا هـو الأسلوب الحضاري في تنظيم التظاهرات السلمية، الذي يجنب الجميع أي مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن.

ليست هنالك حاجة لـفرض سياسة الأمر الواقع، عبر التظاهر دون الحصول على ترخيص من الجهات المختصة، كما يحدث الآن من الجهات المتشددة، التي تحرّض أتباعها على تدمير الممتلكات وحرق محولات الكهرباء، ومهاجمة قوات الأمن. إن هذه الأفعال هي ضد حقوق الإنسان، كما أن الردّ المتعسّف ضدّها انتهاك لحقوق الإنسان. إن سبب المواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن، وما يتبعه من مصادمات واعتقالات، ومن ثمّ مزاعم تعذيب، يعود بالدرجة الأساس الى أولئك الذين لا يعتقدون بوجوب الالتزام بالقانون، لا من حيث الحصول على إجازة بالتظاهر، ولا من جهة الإلتزام بسلميّة التظاهر. نحن مع التظاهرات الحضارية، ومع معاملة أمنيّة أكثر تحضراً.