إشكالية العلاقة بين البحرين والمجتمع الحقوقي الدولي
لمّا كان الموضوع الحقوقي البحريني بتداعياته الخارجية، قد شكّل
جزءً كبيراً من نشاط الحكومة البحرينية في السنوات الماضية، ومن اهتماماتها،
وعليه انصبّت جهودها لتطويره وتحقيق إنجازات بشأنه، والتصدّي للتحديّات
التي تواجهها لتحقيق غاياته منه. فإن من الضروري بمكان أن يجد المعنيون
بهذا الملف الحقوقي، وما يتعلّق به سياسياً وإعلامياً معرفة آفاقه
والسُبل التي ترفد جهودهم في تحقيق الغايات الحقوقية المنشودة.
هناك جملة من الملاحظات الأساسية النظرية، حول الموقف من المنظمات
الحقوقية الدولية:
أولاً ـ ان المنظمات الحقوقية هي منظمات
ضغط، Pressure Groups، وقد كانت تُسمى هكذا الى وقت قريب، قبل ان يعاد
تسميتها الى منظمات المجتمع المدني، او المنظمات غير الحكومية NGOs.
كل المنظمات الأهلية او الحقوقية، وفي أي بلد من بلدان العالم، هي
في واقعها (منظمات ضغط)، بمعنى أنها تمارس الضغوط على من بيده السلطة
لتحقيق أهداف محددة، تعود بالفائدة إما على أعضائها، كالمنظمات المعنية
بالدفاع عن مصالح الأطباء او المهندسين او الصحفيين، او النقابات وغيرها.
أو هي تمارس عملية الضغط على صانع القرار على اساس تطوير وضع ما من
أجل الصالح العام، كمنظمات البيئة او حقوق الانسان، أو غيرها.
يقوم عمل منظمات الضغط هذه، على حشد الطاقات والجهود، واستخدام
الاعلام، والضغط على اعضاء البرلمان والوزراء ومَن هم في مواقع المسؤولية،
وتكتيل الرأي العام المحلي والخارجي ـ احياناً، لتحقيق أهدافها.
وحكومة البحرين حينما أفسحت المجال لتأسيس مئات الجمعيات غير الحكومية،
كان يفترض معها انها تتوقع أن تأتيها ضغوط، لاصلاح سياسات، أو تعديل
تشريعات، أو تطوير أوضاع وهكذا.
فالمدافع عن المرأة أو البيئة او العمال أو اصحاب الاحتياجات الخاصة،
أو غيرهم، سيقوم بعمله الأساس، حيث سيسلط الضوء على مواقع النقص في
أداء الحكومة وتشريعاتها، ثم يقوم بتنوير الناس بمعاناة من يدافع عنهم،
ثم يحشدهم للعمل والتطوّع لتحقيق الهدف، ثم يخاطب السلطات من أجل ذلك،
ويستعين بنظرائه من منظمات مشابهة في الداخل والخارج، ويقيم المؤتمرات،
وينتقد النقص الحكومي وبطء الاستجابة.. وهكذا.
كل هذا يعني أن المنظمات غير الحكومية تقوم بعملية ضغط متواصلة،
فكلما حققت السلطات مطالب معينة، جاءها ضغط آخر لتحقيق مطالب أخرى،
ولا يقف السقف إلا عند المعايير الدولية التي نصت عليها الاتفاقات
والمعاهدات الدولية، وانضمّت لها الدولة. وحتى لو لم تنضم دولة ما
لمعاهدات دولية بعينها، فإن الضغط عليها لا يتوارى ولا ينتهي، بل يمارس
بحقها ضغط محلي وخارجي لكي تنضم الى تلك المعاهدات وتلتزم بها. حدث
هذا في البحرين وغيرها، ولازال يحدث في عشرات الدول من العالم.
من هنا يجب أن لا يستنكر صاحب القرار والمسؤولون في جهاز الدولة
وجود ضغط من قبل المنظمات غير الحكومية، سواء كانت محلية أو خارجية.
لا يجب أن يسألوا: لماذا لم يوقفوا نقدهم لنا؟ لماذا لم يقدروا جهودنا؟
لماذا يسلطون الضوء علينا وحدنا؟ لماذا التركيز على النواقص والسلبيات
وعدم النظر الى الايجابيات والانجازات؟
هذه الأسئلة قد لا تكون دقيقة، فالأصل في العمل لهذه المنظمات هو
(الضغط) والبحث عن النواقص، وتحقيق المزيد من النتائج لمن تدافع المنظمات
عن حقوقهم، وقد يأتي بعض المديح للحكومة بشكل عابر وفي السياق العام،
ولكن ليس من مهمات هذه المنظمات غير الحكومية، ان تخصص مساحة كبيرة
للمديح والإشادة والإطراء، بقدر ما هي مهتمة بتتبّع مواطن نقص أخرى
في أداء السلطات، تريد تلك المنظمات سدّها، والانتقال الى مرحلة مطلبيّة
تالية.
ثانياً ـ إن الإتكاء على مفهوم (سيادة
الدولة على أرضها وشعبها) لمواجهة مزاعم الانتهاكات ما عاد مُجْدياً
كمبرر لمنع المنظمات الحقوقية الدولية من التدخل في الشؤون الداخلية
لأيّ دولة في العالم؛ كما لم يعد مفهوم السيادة صالحاً للإستخدام بتوسّع،
بحيث يمكن القول بأن دولة ما لها الحق في أن تفعل ما تريده على أرضها
وبين شعبها.
القول باستنكار: لماذا يتدخل الآخرون في شؤوننا؟ أو مخاطبة المجتمع
الحقوقي الدولي على أساس انه يحق للدولة أن تفعل ما تريد حين تواجه
بانتقادات، والإصرار أحياناً على أن الحكومة تقوم بتنفيذ القانون المحلي..
هذا النوع من الردود يتحدّث عن عالم افتراضي غير موجود في العلاقات
الدولية المعاصرة. لماذا؟
لأن موضوع حقوق الانسان، وبعض الموضوعات الأخرى، صارت جزءً من القانون
الدولي، وضمن شرعة الأمم المتحدة، والاتفاقيات التي انضمّت اليها الدول،
وبالتالي فإن عدم تطبيق هذا القانون يعد اخلالاً بالتزامات الدولة.
في الماضي لم تكن الدول تهتم بالقانون الدولي إلا فيما يتعلق بتنظيم
العلاقات مع غيرها من الدول، وكان بإمكان كل دولة ان تفعل ما تشاء
داخل أراضيها وبين شعبها. اليوم الموضوع تغير، فالمجتمع الدولي وضع
آليات ملاحقة ومحاسبة ورصد ومتابعة، بل ومحاكمة احياناً، ولم يعد الشأن
الداخلي حكراً على الحكومة وحدها.
أصبحنا في عالم يشترك في حمل ذات المفاهيم الحقوقية، في حين ان
الجمعيات او المنظمات الحقوقية تحمل ذات الهموم في الدفاع عن البشر
أياً كانوا وأينما كانوا. وفي ظل العولمة تكتلت المنظمات التي تعمل
في نفس الحقول (بيئة، حقوق انسان، المرأة، الصحفيين) بحيث اصبحت المنظمات
المحلية الحقوقية جزءً عضوياً من مجتمع حقوقي كبير في العالم، واذا
ما تعرّض اي جزء من هذا المجتمع الحقوقي الكبير، تداعت له سائر الأعضاء
بالدفاع والمناصرة والحماية.
من جهة اخرى، صارت الدولة تُخْضِع قوانينها المحلية لتوائمها مع
القوانين الدولية، وليس من الصحيح أن يحتجّ أحدنا بالقانون المحلي،
في حين ان الدولة نفسها انضمت الى معاهدات واتفاقيات تلزمها في بعض
القضايا بخلاف القانون المحلي، وتفرض عليها تعديل قانونها لصالح القانون
الدولي.
هذا يعني أن الدولة لا تستطيع ان تنفكّ أو تنفصل ثقافياً وحقوقياً
وقانونياً عما يجري في العالم، حتى ولو لم تنضم الى معاهدة بعينها،
والسبب ان الأكثرية من المجتمع الدولي قد انحازت وانضمت اليها، فتصبح
الدولة ملزمة بها أدبياً وعرفياً (بالطبع تستطيع ان تتحفظ على مواد
معينة من دون الاخلال بجوهر المعاهدة). وهذا يعني أيضاً، ان على الدولة
ـ أي دولة ـ ان تخاطب المجتمع الحقوقي الدولي بلغته، ووفق معاييره،
وان تتفهم نصوص الاتفاقيات الدولية حينما يتدخل الآخرون بشأن موضوع
داخلي محدد، جاء وفق تلك المعاهدات.
ومما يعنيه هذا، أن عزل المواطنين او المنظمات الحقوقية عن تأثيرات
العالم الخارجي الحقوقي، أمرٌ غير ممكن. فهناك مشترك كبير في المفاهيم
والآليات والأدوات، تشارك فيه الانسانية بأكملها؛ وحتى لو فكرت دولة
ما بإلغاء المنظمات غير الحكومية المحلية كلية، او منعت ظهورها ابتداءً،
فإن هذا لا يغير من حقيقة ان هناك منظمات حقوقية دولية ستدافع عن حقوق
الناس، وستنتقد الحكومات على فعلها، وستنسق مع الناشطين المحليين،
الذين لن يتوقفوا عن نشاطهم الحقوقي بفعل الحظر، وسيواصلون تواصلهم
عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الحديثة، وهو ما لا يمكن
لدولة ان تسيطر عليه وتمنعه.
وعليه، لا تستطيع اي دولة ان تعزل نفسها عن المفاهيم العالمية،
ولا عن القانون الدولي الحقوقي الذي تم بنيانه عليها، ولا أن تنأى
بتأثيرات ذلك على سياساتها وأوضاعها المحلية. وسواء كان خيارها التعاون
او المقاطعة مع المجتمع الحقوقي الدولي، فلن يغير ذلك شيئاً من تلك
التأثيرات. ان كل الخيارات لها تبعات، والخيار امام الدول ليس التمييز
بين الأبيض والأسود، وإنما أي الخيارات أكثر فائدة، او أقل ضرراً.
|