حسن موسى الشفيعي

السياسي والجنائي في أحكام (المعامير)

حسن موسى الشفيعي

بعد مضي أكثر من عام على وفاة عامل آسيوي (شيخ محمد رياض) حاصرته مجموعة من الشباب في أحداث شغب في قرية المعامير، وألقت عليه زجاجات حارقة (مولوتوف) في 7/3/2009 أدّت الى إصابته بحروق شديدة، وانتهت بوفاته.. أصدرت المحكمة الكبرى الجنائية في 5/7/2010 أحكاماً بالمؤبد على سبعة من المتهمين، وبرّأت ثلاثة منهم، فيما استأنف محامو المتهمين الحكم، وقررت محكمة الإستئناف العليا الجنائية النظر في الدعوى وذلك في 26/9/2010.

استندت المحكمة في إدانتها للمتهمين على اعترافاتهم وعلى شهادات ضابطين، وكذلك على تقارير مسرح الجريمة والتشريح التي أثبتت أن سبب وفاة المجني عليه كان بسبب الحريق. كما اعتمد الحكم على قانون العقوبات، وعلى قانون مكافحة الإرهاب الصادر عام 2006، ما جعل رئيس هيئة الدفاع عن المتهمين المحامي محمد التاجر يعتقد بأن استخدام قانون مكافحة الإرهاب قد ضاعف العقوبة الى المؤبد، في حين أن قانون العقوبات يجرم الفاعل في حال ثبوت الإدانة بـ 5-7 سنوات سجناً فقط.

صدور الحكم أثار ـ كما هو متوقع ـ عدداً من ردود الفعل الحادّة. ففي قاعة المحكمة وبمجرد أن نطق بالحكم رئيسها القاضي الشيخ محمد بن علي آل خليفة، قامت مجموعة من الحاضرين بأعمال فوضى وشغب، حسب الشرطة، فيما اعترضت عوائل المتهمين على الحكم، وتعالت الصرخات وأجهشت الأمهات بالبكاء، وقالت تقارير أخرى بأن عدداً من الحاضرين قد تعرضت حقوقهم للإنتهاك بسبب تعديات الشرطة.

وشهد يوم إعلان الحكم اعتصاماً أمام مبنى المحكمة كما أمام وزارة العدل، تحوّلا الى شغب وصدام ومواجهات أمنية مع الشرطة. وفي المساء، انطلقت مسيرات احتجاجية (غير مرخصة) كتلك التي حدثت في قرية البلاد القديم، وفرقتها الشرطة، ومثلها ما شهدته قرى سترة والمعامير والديه والدراز والسنابس وبني جمرة، والتي رافقها حوادث شغب ومصادمات، أحرقت على أثرها الإطارات وحاويات القمامة وقطعت الطرقات، وقد تدخلت قوات مكافحة الشغب لتفريق المحتجين وإعادة فتح الطرقات، وقد استخدمت الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي.

وشهدت الفترة اللاحقة المزيد من الإحتجاجات والإعتصامات والمسيرات وأعمال الشغب في عدد من القرى وبشكل شبه يومي، خاصة في قرية المعامير التي وقع فيها الحادث والتي ينحدر منها أكثر المتهمين، كما في الأيام 7 و 10 و11، و12/7/2010.

على صعيد آخر، لم يرض الحكم محامي المتهمين، خاصة فيما يتعلق بنقض مدعيات التعذيب وعدم توفير المحامين للمتهمين، حيث دفع المحامون ببطلان إجراءات التحقيق لعدم وجود محامين مع المتهمين أثناء التحقيق، ولكن المحكمة ردت ذلك وقالت بأن (المتهمين لم يقرروا وجود محامين لهم). وكان المحامي التاجر قد أشار الى تعرض المتهمين (للإعتداء بالضرب) وأن ملف الدفاع عن المتهمين يتضمن صوراً تثبت ذلك؛ وقال أنه طلب من النيابة العامة في الجلسة الأولى عرض المتهمين على الطبيب الشرعي، ولكن ذلك لم يحدث، حسب قوله.

المحكمة في يوم صدور الحكم ردّت على دعاوى التعذيب بالقول إن ذلك (عار عن الصحة؛ والأوراق قد خلت من أي دليل يثبت تعذيبهم، وخصوصاً أن النيابة عرضت المتهمين على الطبيب الشرعي في الفجر الأول من القبض عليهم، وخلص الطبيب الشرعي إلى أن الآثار الموجودة على جسد المتهم الأول نتيجة افتعالية بفعل ضرب نفسه، ومحاولة الهرب عند القبض عليه، أما المتهم الثاني فكان بفعل الاحتكاك بالقيد وفعل مقاومته للشرطة، وأما المتهمان الرابع والخامس فقد افتعلا الجروح في الساعد الأيمن، وتعذر معرفة الآثار الموجودة على صدر المتهم الخامس، وقد تكون بسبب أمراض جلدية، أما المتهم السادس فوجود آثار احمرار في ظفر رجله الأيمن بفعل الاحتكاك بجسم صلب، أما المتهم السابع فلا يمكن تحديد طبيعة الإصابة وسببها). وأوضحت المحكمة أن (ما جاء على لسان شهود النفي بوجود تعذيب، فإن المحكمة لا تطمئن لها وتطرحها، وكذلك الاعترافات فإن للمحكمة سلطة الأخذ بها سواء اعترافات في حق نفس المتهم أو في حق غيره، أو في أي دور من أدوار التحقيق، وإن عدل عن الاعترافات بعد ذلك، فإن للمحكمة الأخذ بها متى اطمأنت لصحة الاعتراف).

لم يقبل محامو المتهمين بردود المحكمة على اعتراضاتهم، وقال التاجر بأنه سيطعن في حكمها من جهة نفيها وقوع التعذيب، واضاف: (لا يمكن تبرير متهم توجد عليه آثار ضرب بأنه مرض جلدي، أو متهم مشوّه جلده وجفونه نتيجة التعذيب بالقول إن تلك الآثار من فعل محاولته الهروب).

The victim’s car that was attacked with bombs

وعلى الصعيد الحقوقي والسياسي، فإن الأمين العام للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان عبدالله الدرازي اعتبر في 10/7/2010 الحكم الصادر في قضية المعامير حكماً سياسياً وليس قضائياً، وأضاف بأن الهدف منه ترهيب المواطنين. الجمعيات السياسية المعارضة وفي مقدمتها (جمعية الوفاق) أصدرت بياناً مشتركاً في 16/7/2010 أدانت فيه عنف قوى الأمن دون أن يسمها، كما العنف والتحريض الذي يجري في الشارع، وأكدت على ضرورة الإنحياز الكلي إلى العمل السياسي السلمي، والإبتعاد عن العنف وعمّا يعكر الوفاق الوطني والسلم الأهلي، في إشارة الى أعمال الشغب والعنف التي تحرض عليها قوى ترفض العملية السياسية.

وبالرغم من أن البيان أعلن احترامه (العميق) للقضاء في إرساء دعائم الحق والحرية والقانون، فإنه شكّك في توفر ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة للمتهمين، مفترضاً براءة الأخيرين ومشيراً الى (شبهة تعرض المتهمين للتعذيب). ولذا فقد طالبت الجمعيات بإطلاق سراح المتهمين في تجمع مفتوح ومرخص له في 10/7/2010.

مسيرة احتجاج على الأحكام

بين الجنائي والسياسي

ما كانت قضية معتقلي المعامير ومثلها قضية كرزكان لتثير هذا الجدل الحاد في الساحة الحقوقية والسياسية، لولا أنهما قضيتان متداخلتان بالشأن السياسي. ففي حين يصرّ القضاء على التعاطي مع المسألة كقضية جنائية (أفراد هاجموا بالقنابل الحارقة سيارة شخص اعتقدوا أنها للشرطة بغية الإضرار به)، يرى المحرضون على العنف من المعارضين بأن القضية سياسية بمعنى أنها من وجهة نظرهم تمثل (محاولة حكومية لخنق حرية التعبير عبر اتهام أفراد عبروا عن رأيهم في الشارع سلمياً، فلفقت لهم تهمة القتل). وهناك طرف ثالث يحاول أن يمسك العصا من الوسط كما في بيان الجمعيات السياسية، فموقفها يأخذ بعين الإعتبار مصالحها السياسية أيضاً بحيث: تدين العنف من قبل الشباب المتهمين ومن يحرضهم وترى في ذلك ضرراً على المجتمع وأنه لا يوصل الى تحقيق المطالب السياسية وغيرها. ومن جهة ثانية، فإنها ـ وحفاظاً على رصيدها من الجمهور ـ تدين الحكم القضائي وتصفه بأنه (سياسي وغير عادل)، ومن المرجح أنه لو كان الحكم أخفّ مما ظهر، فإنها ستنزّه القضاء وتدين الحكم القضائي أيضاً!

ما نريد الإضاءة عليه في هذه القضية هو التالي:

أولاً ـ إن ما حدث في قضيتي المعامير وكرزكان ووقوع ضحيتين للعنف الأهوج باستخدام القنابل الحارقة وإلقائها بقصد الإيذاء.. إن هذا الفعل مشين ومدان، وهو جريمة حقيقية لا يمكن تبريرها بأن من رمى تلك القنابل إنما كان يعبّر عن رأيه السلمي. هذا على الأقل ما يتفق عليه الجميع، حكومة ومعارضة ومنظمات مجتمع مدني، اللهم إلا المحرضين على العنف المعروفين.

ثانياً ـ إن للقضية شقّان واضحان: جنائي وسياسي. فلا يمكن للباحث التعاطي مع القضية بوجه جنائي بحت، ولا بوجه سياسي محض. فالحدث وقع في إطار الشغب والعنف المسيّس، ووراءه محرضون سياسيون؛ واستهدافات ذلك الشغب وما يجري فيه من توتير الوضع الأمني، وتعطيل المصالح، وتخريب الممتلكات العامة، هي سياسية بامتياز. وكذلك، فإن النظرة الى مرتكب الفعل المباشر هي نظرة سياسية، فيقال مثلاً بأن المتهمين كانوا قد وقعوا تحت التحريض السياسي، وكذلك في التغطية الإعلامية ونظرة المجتمع تقول بأن حدث الشغب سياسي، والممارسون له هم أداة في عمل سياسي؛ فضلا عن أن تشخيص الفعل سياسي بامتياز، وحتى خلفية المحامين المدافعين عن المتهمين هي سياسية ـ كما هو معلوم بالضرورة ـ فبعضهم ليسوا فقط أعضاء بل قيادات في الأحزاب السياسية المعارضة. إزاء هذا لا يمكن اختصار القضية التي جرت محاكمة الشباب العشرة بشأنها بأنها بعيدة عن السياسة وأجواء السياسة.

بيد أن هذا لا يعني ولا يبرر الجريمة، ولا يمكن تبرئة الفاعلين لمجرد أن القضية سياسية. والخشية تكمن في إمكانية زيادة عدد الضحايا الأبرياء بحجة هذا التعبير المخلّ عن الرأي (بالقنابل الحارقة!) إن لم يتم ردع مرتكبي الجريمة، حتى ولو تم توصيفها كـ (عمل سياسي، أو جريمة سياسية)؛ فلا يمكن التسامح بأرواح الناس. وفلسفة العقوبات قائمة في جزء منها على حماية المجتمع وتحقيق العدالة، وعدم تكرار أعمال العنف والقتل.

وعليه، فإن الذين يطالبون بإطلاق سراح المتهمين والإفراج الفوري عنهم، لا يستطيعون تقديم ضمانات بعدم تكرار القتل من قبل شباب تم شحنهم بالتحريض السياسي.. ولربما لو لم تكن هناك ملاحقة قضائية لمرتكبي جريمتي قتل المعامير وكرزكان لكان عدد قتلى اعتداءات المولوتوف أكبر مما حدث حتى الآن.

ثالثاً ـ إذا كان هناك خلل في أي ركن من أركان المحاكمة العادلة، كأن يكون التحقيق غير شفاف، وأفضى الى اعترافات تحت الضغوط؛ أو كان هناك تعذيب، أو منع المحامون من حضور التحقيقات، أو غيرها.. فإن المسألة الأساس التي يجب التركيز عليها، هي أن هناك جريمة قتل وقعت، وأن هذه الجريمة ـ كيفما وصفناها جنائياً أو سياسياً ـ لا يجب التسامح مع مرتكبيها، وأنه يجب أن تتوافر المحاكمة العادلة للمتهمين في مختلف مراحل القضاء.