حسن موسى الشفيعي

الشيعة في البحرين والموقف من الدولة

حسن موسى الشفيعي

(الدولة) كائن غير محترم في الثقافة العربية. و(الدولة) في الثقافة العربية تعني (التغيّر) وليس (الثبات) كما في الثقافة السياسية المعاصرة. والدولة في المخيال الشعبي العربي نقيض للحرية، خاصة لدى القبائل التي تريد أن تجول بدون قيود الحدود والجوازات والهويات. وممتلكات الدولة أيضاً ليست موضع احترام لدى العربي عامة، فهو وإن قدّر الملكيّة الفردية، ورفض انتهاكها او انتقاصها، فإنه لا يحترم ملكية الدولة، ولو أُتيحت له الفرصة لربما قام بالإعتداء على تلك الملكية ونهبها (يقول المثل المصري: بيت أبوك خرب، قم خذ لك طوب). لهذا، يعاني العرب مشاكل في بلدانهم من جهة بناء دول حقيقية تستقطب الإحترام والمكانة، ويرى فيها المواطن ذاته، بحيث يرفض انتقاصها أو إضعافها أو الإعتداء على ممتلكاتها (المال العام). ما يراه العربي هو (تغوّل) للدولة، واعتداء على حريمه الخاص، وتقييد لحرياته في السفر والإنطلاق والتعبير.

وحتى (الدولة الريعية) لم تسلم هي الأخرى من اعتداء أبنائها على ممتلكاتها، أو تخريبها حتى، كما يحدث أحياناً للمنتزهات، والحمامات العمومية، فضلاً عن النهب للمال العام، وازدياد حدّة الفساد، الأمر الذي يبقي الدولة (كائناً مستباحاً)، في ظل السلم كما في ظل التوتر السياسي، حيث تكون الممتلكات العامة في قائمة الإستهداف بالنهب أو الحرق أو التخريب، كما هو واضح اليوم من جهة استهداف العنف والشغب لمولدات الكهرباء وأعمدة الإضاءة وإشارات المرور وغيرها.

(مشروعية الدولة) أي حقها في السيادة على أرضها وشعبها، مسألة لم تترسخ في الوجدان الشعبي، بالنظر الى تسلطيتها وعدم ديمقراطيتها، فضلاً عن فشلها في تحقيق أهداف مواطنيها وتطلعاتهم. وفي البحرين حين جرت مراجعة لعلاقة الدولة بالمجتمع، وبدأ عهد الإصلاحات، كان يفترض أن تتغير النظرة السلبية تجاه الدولة، وهي قد تغيّرت فعلاً لدى مجاميع غير قليلة، خاصة في الوسط الشيعي. لكن مشكلة الشيعة بالذات لها جذور تاريخية لا تزال في بعض الأحيان راسخة.

الرؤية الشيعية القديمة تقول بأن أنظمة الحكم مغتصبة لمقام السلطة (غصبيّة الدولة). وفي القرن الرابع الهجري تحلّل فقهاء الشيعة قليلاً من ضغوط (العمل مع السلطان الجائر) كما في رسالة السيد المرتضى علم الهدى، ثم جاء الشيخ الكركي في القرن العاشر الميلادي، فأجاز الدخول في الدولة والعمل مع السلطان، وكسر موضوع غصبيّة الدولة بنحو كبير، وفي نهاية القرن الماضي (العشرين) تطورت النظرة الى الدولة ومشروعيتها، في حال سارت باتجاه شوروي انتخابي، يرضي الجمهور عنها، فإذا ما تمّ ذلك، أُمكن الدخول فيها والعمل في أجهزتها، وبالتالي لم تعد النظرة الى الدولة كـ (كيان غريب) يقترف المرء الآثام في حال تعاطى معه أو اشترك فيه.

وفي البحرين، يتبيّن أن الشيعة اليوم ـ عدا قلّة منهم ـ لا يرون في أنفسهم أعداءً للدولة، ولا هم يرون أنفسهم بعيدين عن حكمها، ولا بإمكانهم مقاومة إغراء المشاركة فيها والتأثير في قراراتها بما يخدم الصالح العام، مادامت الفسحة الديمقراطية قائمة. لكن لاتزال هناك قلّة، تستدعي المواقف القديمة وإرث الفقه الماضي الذي تخلّى عنه عموم الشيعة، لتسقطها لصالح مواقف سياسية آنيّة على نظام الحكم في البحرين؛ بحيث أخذت تلك الفئات بالترويج الى أن الدولة غير شرعية ـ وليس نظام الحكم فقط ـ لا تجوز طاعتها في قوانينها ولا احترام أملاكها، بل يجوز الإعتداء على الممتلكات العامة بالتخريب والنهب، كما يجوز استخدام العنف ضدّها. زد على ذلك، لا يجوز العمل مع الدولة، أو المشاركة في الإنتخابات البلدية أو النيابية، ولا يجوز تقلّد المناصب ولا التعاطي مع مسؤولي الدولة، بل الواجب مقاطعتهم، كما قرأنا في بيانات التشدّد السياسي.

لا يمكن إعادة الشيعة في البحرين الى الوراء، لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية السياسية. الدولة في البحرين دولة الجميع، وقد ساهم الشيعة مع بقية أبناء الوطن في بنائها، وصوتوا على استقلالها عام 1971، وعلى ميثاقها عام 2001، وشاركوا في العملية السياسية، وبالتالي فإن الفاصلة التي يريدها دعاة التشدّد ليس فقط تعتمد فكراً بالياً تجاوزه الشيعة، بل إن تعميقها يعني أيضاً إضعافهم وتهميش أنفسهم، كما إضعاف وطنهم وتنكيد عيشهم، وهذا ما لا يفعله الواعون والحريصون على مصالح شعبهم.