بينها: غياب روح التطوع، وضعف التمويل
تحديّات تواجه منظمات المجتمع المدني في البحرين
حسن موسى الشفيعي
كانت الشكوى قبل الإصلاحات تتمحور حول (اختناق المجتمع) من جهة
عدم قدرته على التعبير عن تطلعاته، وكذلك عدم وجود قنوات يعبّر فيها
عن مشاركته في صناعة المجتمع الذي يريد. كانت الشكوى تتمحور حول عدم
وجود فسحة لنشوء منظمات المجتمع المدني، من جهة أن السلطة كانت سمتها
حينها (تسلّطية) لا تريد لتلك المنظمات أن تنشأ وتعمل بمعزل عنها،
أو كانت تريد لبعضها أن يؤسس، ولكن تحت عباءتها وليخدم أغراضها وبرامجها.
حين جاء المشروع الإصلاحي، انتظم الجمهور ضمن جمعيات سياسية، وضمن
منظمات حقوقية، وصناديق خيرية، وهيئات، وأندية ونقابات وجمعيات متعددة
الألوان، ولتغطي معظم القضايا التي تشغل بال المواطنين، ولتشمل دائرة
الإهتمام كل الشرائح الإجتماعية: النسائية، والشبابية، والمعوقين،
والأطفال، والعمالة الأجنبية، والعاطلين عن العمل، والعجزة، وغيرهم.
لم تعد هناك مشكلة في تأسيس جمعية أو نقابة أو هيئة أو ناد، إذ
صار من السهل تسجيل أي تجمع لدى وزارة التنمية الإجتماعية. ولقد كانت
السلطة السياسية ـ بداية عهد الإصلاح ـ متحمّسة لنشوء منظمات المجتمع
المدني، وكانت تدفع باتجاه تأسيس المزيد منها، وتسهيل الإجراءات، وحتى
التغاضي عن بعض النواقص.. فالمهم أن يتحرك المجتمع وينشط ضمن أنظمة
وضوابط واضحة، وبشكل علني.
وهكذا تأسست نحو 450 مؤسسة أهلية خلال السنوات الأخيرة، ولكن ظهر
الآن وبعد فورة الحماس الأولى، أن منظمات المجتمع المدني، وضمن المحيط
الإجتماعي والسياسي الذي تعمل فيه، تواجه تحديّات غير تلك التي كانت
موجودة سابقاً. ولأن الصعوبات والمشاكل كبيرة، فإننا ـ واعتماداً على
التجربة التي لازال المجتمع يمر بها ـ سنتطرق الى اثنتين منها فقط،
وهما:
1/ غياب روح التطوّع في المجتمع
هيئات المجتمع المدني هي في الأساس ذات صبغة (تطوّعية) كونها ناشئة
بشكل مستقل من المجتمع، وتعتمد على طاقاته البشرية والمالية.. وكلّما
كان المجتمع حيويّاً، تزايد حجم المنخرطين والمتطوعين والمتبرعين،
واتسعت مساحة ودائرة الإهتمام للمنظمات الأهلية لتشمل موضوعات لا تخطر
ببال أحد أحياناً. ولكن حين تضعف روح التطوّع والعطاء في المجتمع،
فإن منظمات المجتمع المدني تذوي وتذبل وتنتقل من حالة ضعف الى أسوء
منها، بحيث لا تكون قادرة على القيام بمهامها، وقد تغلق أبوابها وتفشل
فيما تحمّست للقيام به.
لقد شهدنا حالة انفجار في تأسيس المنظمات الأهلية بداية عهد الإصلاحات،
ما كشف عن وجود نخبة كبيرة في المجتمع تدرك بأهمية تلك المنظمات ودورها،
فتسابقت باتجاه تأسيس المنظمات الأهلية، واندفعت نسبة من المجتمع باتجاه
تعضيدها ودعمها وتسجيل أسمائها كأعضاء في تلك المنظمات، ترافق ذلك
أيضاً مع قدر ـ ولو بسيط ـ من التشجيع والدعم المالي الحكومي.
لكننا اليوم، وبعد مضي سنوات من العمل الأهلي، نكاد نجد أعداداً
كبيرة من تلك المؤسسات الأهلية تعيش حالة من الفراغ والسكون وعدم القدرة
على العطاء.. بل أن عدداً غير قليل منها، صار مجرد إسم على ورق، لا
فعالية لديه مطلقاً. مالذي حدث؟ ولماذا؟ وهل كان ما جرى مجرد فورة
عاطفية ـ سببها الحرمان والكبت القديم ـ وانطفئت بمجرد تسجيل تلك المنظمات
رسمياً؟!
معظم المنظمات الأهلية تشكو من قلّة (المتطوّعين) و (المتبرعين)
حيث انعكس ذلك على أداء تلك المنظمات. فإذا ما تنكّر المجتمع لمنظماته
الأهليّة، عاشت هذه الأخيرة حالة من الإغتراب، والشلل، بسبب نقص الإمكانات
البشرية والمالية. ولعل هذا هو ما يجري الآن فعلاً.
لكن السؤال: لماذا انخفضت روح التطوع والعطاء في المجتمع؟ هل المشكلة
في المنظمات الأهلية نفسها التي لم تستطع إقناع المجتمع برسالتها؟
أم أن المجتمع البحريني نفسه حديث عهد بالتجربة، وتشغله هموم أخرى،
أو أن فهمه لدور المنظمات الأهلية في الأساس ناقص، وكأنّ هناك رؤوسا
نخبوية مفكرة وواعية لدورها، ولكنها لا تجد الأيدي ـ من المجتمع ـ
التي تشيد البناء؟
من الملاحظ أن بعض شرائح المجتمع، وفي الوقت الذي لا تمدّ فيه يد
العون للمنظمات الأهلية، فإنها في نفس الوقت بنت آمالاً كبيرة عليها
تفوق طاقة تلك المنظمات. ولعلنا نشير هنا في ذات الوقت الى حقيقة أن
بعض أفراد المجتمع لا يميّز حتى في اختصاص الجمعيات، ويمكن أن يطلبوا
حلاً لأزمة البطالة من جمعية حقوقية، أو يطلبوا مساعدة مالية من جمعية
أهليّة هي في الأساس بحاجة الى المال لتصريف أعمالها.
في سياق ذي صلة، فإن المنظمات الأهليّة عامّة تعتمد على عدد قليل
من المتفرغين، وأما بقية الجهد فيقوم به المتطوّعون. وفي البحرين هناك
أزمة كبيرة في كلا الجانبين: فلا يوجد متفرّغين بسبب قلّة الإمكانات،
وبالتالي فإن القائمين على تلك الجمعيات الأهلية يعملون في وقت فراغهم،
بعد أن ينهوا أعمالهم الأخرى التي يعيشون منها. كما أن المتطوعين قلّة
لا يفون بالحاجة. وعليه كيف يمكن لمثل هذه المنظمات الأهليّة أن تنتج
وأن تتطور وتؤثر في المجتمع؟
2/ ضعف التمويل
وهو مرتبط بما سبق، ولكن للتمويل وجهان: تمويل شعبي محلّي ومن اشتراكات
الأعضاء؛ وتمويل رسمي محدود. لقد أدّى ضعف التمويل بعدد غير قليل من
الجمعيات ـ بما فيها جمعيات ذات مكانة كجمعية الشفافية، وهي عضو في
الشفافية الدولية ـ الى حدّ أنها أصبحت غير قادرة على استئجار مكتب
لها، وتوظيف بضعة أفراد من المتفرغين، فضلاً عن تمويل أنشطتها، وإصدار
مطبوعاتها، وتغطية نفقات السفر والإقامة وغيرها.
هذا وضع عدداً كبيراً من مؤسسات المجتمع المدني في موقع لا تحسد
عليه. فالحكومة تقول بأنها تدعم مؤسسات المجتمع المدني، والمجتمع ينتظر
من تلك المؤسسات خدمات ملموسة.. ولكن كيف يكون ذلك؟ خاصة وأن قانون
الجمعيات يمنع الحصول على (تمويل خارجي) ولو من جمعيات مماثلة في بلدان
أخرى.
نظنّ أن الحكومة تتحمل جزءً كبيراً من مسؤولية ضعف منظمات المجتمع
المدني، لأن ما رصدته حتى الآن لتمويل نشاطات الجمعيات الأهلية غير
كاف، بل هو فيما يبدو قليل للغاية. وإذا كانت الحكومة تعتقد بضرورة
إنجاح تجربة مؤسسات المجتمع المدني، في مجتمع حديث عهد بالتجربة الديمقراطية،
فإنها ولا شك تدرك الصعوبات التي تعترض تلك المؤسسات التي يكاد الكثير
منها قد فرّغ من محتواه نتيجة المشاكل المالية. وفي هذا الصدد، فإن
الحدّ الأدنى الذي يجب على الحكومة أن تكفله، هو توفير مقرات لتلك
الجمعيات إما بشكل دائم أو بالإيجار، كما وعليها أن تتحمل قسطاً من
النفقات، حتى تتمكن الجمعية من إيجاد متفرغين للعمل، وتنمّي عناصر
المهنيّة والقدرة على التواصل مع المجتمع.
من المعيب حقّاً، مثلاً، أن الإتحاد النسائي البحريني، وهي مظلّة
لعشرات من الجمعيات النسائية المختلفة، مهددة بالطرد من مقرّها، لأن
الحكومة تخلّت عن مواصلة دفع إيجار المقرّ. أبمثل هذه السياسة يمكن
أن تنضج تجربة مؤسسات المجتمع المدني البحريني؟!
إذا لم يتوفّر التمويل الكافي المحلي: الشعبي والرسمي، فلا يجب
أن تلام منظمات المجتمعات المدني إن هي اتجهت الى نظيراتها في الخارج
طلباً للدعم. وإذا ما قررت الحكومة زيادة تمويلها لمنظمات المجتمع
المدني، فيجب أن يكون بعيداً عن أيّ تحيّز سياسي.
|