نحو تفعيل مؤسسات حقوق الإنسان في البحرين
صناعة مؤسسات تتعاطى بالشأن الحقوقي، مسألة غير صعبة؛ وإنما تكمن
الصعوبة الحقيقية في محتوى تلك المؤسسات وقدرتها على الإيفاء بأهدافها
المعلنة، وإقناع الجمهور المحلّي والرأي العام الحقوقي الدولي بفعاليتها
ودورها الأساس في تطوير حقوق الإنسان.
كل دول العالم بلا استثناء لديها مؤسسات حقوقية محلية، وربما تواصلت
وتفاعلت مع الجو الحقوقي العالمي. لكن كم منها يحقق أهداف حقوق الإنسان؟
ولماذا يوجد فرق شاسع بين دولة وأخرى في طبيعة تلك المؤسسات وتأثيرها؟.
بعض الدول، وبسبب الضغوط الدولية عليها، أو بغية تضليل الرأي العام
المحلي لديها، عمدت الى مماشاة العالم في إيجاد مؤسسات حقوقية، لا
بغرض تطوير أوضاع حقوق الإنسان لديها، وإنما تفادياً للمزيد من الضغوط،
في وقت لم يكن في إرادة تلك الدول استحداث مؤسسات فاعلة حقاً، ولم
تكن رغبتها صادقة، بل عمدت الى مواصلة سياستها القمعية ولكن مع غطاء
حقوقي ـ في الشكل.
لكن وجود مؤسسات حقوقية غير فاعلة يمثّل عبئاً على الدولة ـ أية
دولة ـ سواء أخلاقياً أو سياسياً أو أمنياً، ويظهرها بمظهر المخادع،
أو في أحسن الأحوال العاجز في مجال تفعيل ما لديها من أطر حقوقية تمّ
استحداثها.
المؤسسات الحقوقية الدولية الكبرى، تنظر بإيجابية الى أي خطوات
تؤدي الى مأسسة العمل الحقوقي في أي دولة، وهي لا تتدخل في النوايا،
ولكنها تراقب عمل المؤسسات الوليدة ومدى فاعليتها في ترشيد أداء الدولة
في حماية حقوق الإنسان من الإنتهاكات. وللعالم الحقوقي معاييره الدقيقة
في تصنيف المؤسسات الحقوقية التي تقيمها الدول، وفي تقييم أدائها،
وإذا ما وجدت ضعفاً فيها، فإنها تحاول مساعدتها لتطوير عملها، لضمان
مهنيتها واستقلالها ونزاهتها. فإذا لم تلقَ التجاوب المطلوب فإن الدولة
المعنية ومؤسساتها تواجه نقداً وضغطاً دولياً عليها لتصحيح مسارها
وأدائها.
تفعيل المؤسسات الحقوقية البحرينية
أنجزت البحرين خلال الفترة الماضية خطوات ملموسة في مجال الدفع
بإتجاه الوفاء بإلتزاماتها الدولية الحقوقية. تمثلت بعض تلك الخطوات
في إنشاء أربع مؤسسات ذات صلة بهذا الهدف، هي:
1/ وحدة التحقيق الخاصة التابعة للنيابة العامة (فبراير 2012):
وهي وحدة تختص بالتحقيق والتصرف في جميع ادعاءات القتل والتعذيب وإساءة
المعاملة المنسوبة للمسؤولين الحكوميين وفقاً للمعايير الدولية. وقد
أُنشئت الوحدة بناء على توصية بسيوني رقم 1716 والتي تنص على وضع آلية
مستقلة ومحايدة لمساءلة المسؤولين الحكوميين الذين ارتكبوا أعمالاً
مخالفة للقانون، أو تسبّبوا بإهمالهم في حالات القتل أو التعذيب وسوء
معاملة المدنيين. بحيث تتخذ هذه الوحدة إجراءات قانونية وتأديبية ضد
هؤلاء الأشخاص، بمن فيهم ذوي المناصب القيادية، مدنيين أو عسكريين،
من الذين يثبت عليهم مبدأ (مسؤولية القيادة) وفقاً للمعايير الدولية.
2/ الأمانة العامة للتظلمات بوزارة الداخلية (يوليو 2013)؛ وهي
مؤسسة أُنشئت لفحص الشكاوى المقدّمة من قبل مواطنين ضد منتسبي قوات
الأمن العام، لاتخاذ إجراءات تأديبية بحق من يثبت عليه انتهاك حقوق
المواطنين.
3/ مفوضية حقوق السجناء والمحتجزين (سبتمبر 2013)؛ هذه المفوضية
تختص بمراقبة السجون ومراكز التوقيف، بغرض التحقق من أوضاع المحتجزين
وضمان عدم تعرّضهم للتعذيب أو المعاملة غير الإنسانية التي تحطّ بكرامتهم.
4/ المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان (أبريل 2010)؛ وكان الهدف العريض
لإنشائها: تعزيز وتنمية وحماية حقوق الإنسان في البحرين، وفق مبادئ
باريس، وذلك من خلال تلقي الشكاوى المتعلقة بالإنتهاكات؛ ودراسة التشريعات
والتوصية بتعديلاتها بما يتواءم مع المعايير الدولية؛ وإصدار المطبوعات
والتقارير وتنظيم الندوات وعقد المؤتمرات وذلك لنشر ثقافة حقوق الإنسان
ودعم بناء القدرات.
تكمن أهمية قيام هذه المؤسسات الأربع في أنها تمثل الدعامات الرئيسية
للبنية التحتية لحقوق الإنسان في البحرين، كونها تختص بمعالجة أهم
بواعث القلق الدولية تجاه أوضاع حقوق الإنسان؛ كما أنها تشكّل الإستجابة
العملية لمتطلبات الإلتزام بتنفيذ الشقّ الأعظم من التوصيات الواردة
في تقرير بسيوني، والتعهدات التي ألزمت البحرين نفسها بها عبر آلية
المراجعة الدورية الشاملة التابعة لمجلس حقوق الإنسان.
بيد أن هذه الدعامات بقيت مجرد هياكل فارغة المحتوى منذ تأسيسها،
والسبب الرئيسي لذلك قد لا يعود الى غياب الإرادة السياسية، بقدر ما
يكون السبب الأساس كامناً في الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد، والإنقسامات
المجتمعية الحادّة، بحيث لم يتوفر المناخ الطبيعي اللازم لنمو وتطوير
عمل هذه المؤسسات، الى الحدّ الذي كان فيه المجتمع الحقوقي البحريني
منقسماً بشأن التعامل والتعاون معها وحتى مجرد الإعتراف بها. زد على
ذلك فإن هذه المؤسسات تعرضت ولاتزال الى استقطابات سياسية، لخدمة هذا
الطرف السياسي أو ذاك. ولأن هذه المؤسسات الوطنية الحقوقية كانت ولاتزال
تمرّ بـ (مرحلة الطفولة/ التأسيس)، لذا لم يكن بإمكانها القيام بدور
فاعل في ظل الأزمة السياسية.
اليوم، ونحن نترقّب حلاًّ سياسياً ومصالحة وطنية عبر بوابة الحوار
الوطني، وعلى أمل أن يتحقّق ذلك، فإن التفكير المستقبلي يفرض على صانع
القرار إجراء تغييرات جذرية في عمل تلك المؤسسات الوطنية، حتى تخدم
مرحلة ما بعد المصالحة، وتساهم في عملية الإستقرار المجتمعي، من خلال
القفز بأداء هذه المؤسسات لتصبح ناضجة مهنياً، وقادرة على تحقيق الدور
المناط بها في حماية حقوق الإنسان؛ وإقناع الرأي العام الداخلي بجدواها
ـ خاصة أولئك المفترض أن ينتفعوا بخدماتها؛ والإسهام في إستعادة ثقة
المجتمع الدولي بمصداقية البحرين وبجديتها في الوفاء بإلتزاماتها الوطنية
والدولية.
السؤال: ما هي الخطوات المطلوبة لتفعيل عمل هذه المؤسسات الحقوقية
الوطنية؟
أولاً ـ المراجعة الشاملة لأنظمة ولوائح
هذه المؤسسات، والتأكد من أن أيٍ منها لا يخالف المعايير الدولية،
وقانون حقوق الإنسان الدولي. كل مؤسسة من المذكورة أعلاه ترجع الى
قانون دولي حقوقي يحدد معايير العمل على أساسها: فهناك (مبادئ باريس)
بالنسبة للمؤسسة الوطنية؛ وهناك (بروتوكول اسطنبول) بالنسبة لوحدة
التحقيقات الخاصة؛ وهناك معايير دولية للتظلّمات/ ديوان المظالم Ombudsman
يفترض أن تكون الأمانة العامة للتظلمات البحرينية أن تكيّف عملها وفق
ما جاء فيها، وأخيراً هناك معايير دولية في انشاء مفوضية حقوق السجناء
والمحتجزين، مذكورة في البروتوكول الإختياري لمناهضة التعذيب (OPCAT).
ثانياً ـ القيام بمراجعة شاملة للتعيينات
في هذه المؤسسات، فمن لا تنطبق عليه معايير الكفاءة والنزاهة والحيدة
والإستقلالية، يتم استبداله، وإذا ما كان هناك نقص في الكفاءة، فيعالج
من خلال التدريب. لأنه لا يمكن النهوض بأية مؤسسة يقوم عليها غير أكفاء،
وغير نزيهين، أو غير مستقلين. في هذه الحالة ستتمدّد (مرحلة الطفولة)
لمؤسساتنا الحقوقية لمدة طويلة، ولن يكتب لها النضج وتقديم العون وقت
الحاجة. فضلاً عن ذلك، فإن منتج أفراد غير كفوئين هو مؤسسات ضعيفة،
غير مقنعة لا للجمهور، ولا للعالم الحقوقي الدولي.
ثالثاً ـ استقلالية المؤسسات المذكورة
عن التجاذبات السياسية ليست قضية نظرية، فيمكن لأي أحدٍ ان يدّعي باستقلال
هذه المؤسسة او تلك؛ وإن ضمان تلك الإستقلالية يتطلّب خطوات عمل تكشف
او تختبر حقيقة هذا الإستقلال، وتنمّيه، وتفرضه على الواقع السياسي
والحقوقي والإجتماعي. لا يمكن ان تكون المؤسسات الحقوقية مستقلة بدون
أن تكون:
■ شفّافة، فوحدة التحقيق الخاصة مطالبة
مثلاً: بإطلاع الجمهور على المعلومات والوثائق والبيانات والأدلة فيما
يتعلق بالتحقيقات والنتائج التي تتوصل اليها. هذا يساهم في طمأنة المواطن
العادي ويعزّز ثقته بسيادة حكم القانون، وإستقلالية المؤسسات القضائية،
ويدفعه تالياً للتعاون مع الوحدة واعتبارها مرجعية أساسية في استعادة
حقوقه ضد منتهكيها.
والأمانة العامة للتظلمات ـ كمثال آخر ـ عليها أن تقدّم أدلّة استقلالها
من خلال عرض نشاطها وإنجازاتها في تقارير دورية تتضمن الشكاوى التي
تقوم بمعالجتها، وألا يقتصر العرض على مجرد الأرقام والإحصائيات، وإنما
يشتمل على بيانات تفصيلية بالحالات المهمة التي يتم معالجتها، والإجراءات
التأديبية التي اتخذت بحق مرتكبي المظالم. بهذا يمكنها إقناع الرأي
العام البحريني، وبصفة خاصة الفئات المعنية برد المظالم، بأنها تمثل
الملجأ الآمن للضعفاء، والحصن المنيع في وجه الظلم والتجاوزات.
■ متفاعلة، مع محيطها الإعلامي والحقوقي
المحلي والدولي. فهذا من شأنه أن يشعر القائمين على هذه المؤسسات بأنها
تحت النظر والنقد والمحاسبة، وأيضاً.. أن استقلالها محمي ليس بالقرارات
والأنظمة فقط، وإنما أيضاً بدعم قائم من ذات الجهات الناقدة محلياً
ودوليا. هنا تستطيع تلك المؤسسات مقاومة التجاذبات السياسية، والتركيز
على المهنية. وهذا التفاعل يجعلها تتقبّل الإنتقادات بصدر رحب، وتهتم
بإستطلاعات الرأي فيما يتعلق بنشاطها؛ بل أنها ستجد نفسها مدفوعة للإهتمام
بمتابعة ما يصدر من معلومات عن تجاوزات وقضايا انتهاكات تنشرها بيانات
وتقارير مؤسسات حقوقية محلية ودولية ومصادر المعارضة، ومن ثمّ التحقيق
فيها ونشر النتائج بشفافية وموضوعية.
رابعاً ـ لا يمكن تنشيط المؤسسات الحقوقية
الوطنية في البحرين بدون تعاون حقيقي مع المنظمات الحقوقية الدولية
(العفو الدولية؛ الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان؛ هيومن رايتس ووتش؛
وغيرها) اضافة الى المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والآليات الدولية
المعنية بحقوق الإنسان. الحاجة للتدريب وبناء القدرات تبدو أمراً ملحاً،
ونقصاً واضحاً في كل مؤسساتنا الحقوقية. وهذا لا يمكن سدّه بشكل جيد
وحاسم إلا بالإستفادة من الخبرات والتجارب التي تمتلكها تلك المؤسسات
الحقوقية الدولية من خلال تنظيم الدورات وورش العمل. وعليه، يجب إعادة
النظر في العلاقة مع هذه المنظمات والمؤسسات، والنظر اليها كمعين ومساعد،
وليس كعميل ومتآمر!
|