مرحلة ما بعد تقرير (بسيوني)

إعادة هيكلة (المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان)

علينا ابتداءً أن نقرّر حقيقتين متعلقتين بالمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، قبل الحديث عن دور مفترض لها في المستقبل، وما يمكن أن تقوم به في خدمة البحرين حقوقياً.

الأولى ـ أن المؤسسة الوطنية بوضعها الحالي، عاجزة عن القيام بدورها لتحقيق الأهداف التي أوضحها الأمر الملكي الصادر بتأسيسها رقم 46 في 10/11/2009. العجز يعود في مجمله الى (قصور) وليس الى (تقصير) بالضرورة. فطبيعة تشكيل المؤسسة المؤسسة، وخلفية أعضائها المختارين، والتحديات السياسية الصاخبة التي رافقت التأسيس وحتى الآن، لم تترك لها مجالاً لبناء ذاتها والقيام بدور واضح وفعّال، خاصة مع استقالة عدد من أعضائها.

الثانية ـ وبناء على هذا العجز الإداري والقيادي وغياب الحوافز، والذي هو في معظمه خارج قدرة المؤسسة وإرادة أعضائها، لم يكن أداؤها مرضياً على المستوى الشعبي والرسمي والحقوقي.

السؤال ما هو المطلوب فعله لكي تكون للبحرين ـ كدولة ـ مؤسسة وطنية حقيقية، بعيدة عن ضغوطات السلطة التنفيذية، وإغواء الشارع المنقسم على ذاته سياسياً وطائفياً، وأيضاً بحيث تعمل وفق مبادئ باريس بكل الحيادية والصرامة والمهنية في التعاطي مع الشأن الحقوقي؟

الجواب مختصراً يمكن أن يكون هكذا: إعادة هيكلة المؤسسة الوطنية؛ أي إحداث تغيير جذري في إدارتها وأعضائها ومسؤولياتها وصلاحياتها، بحيث تكون قادرة على الفعل والعطاء.

وهذا لا يكون إلا بإعادة النظر في التالي:

1/ استقلالية المؤسسة الوطنية

إذا كانت البحرين تريد بناء مؤسسة حقوقية لها اعتبارها ومكانتها ومصداقيتها ودورها الفاعل، فالمطلوب تصحيح النظرة تجاهها ابتداءً. لا يمكن أن تخدم مؤسسة وطنية حقوقية البحرين إن كانت النظرة اليها ـ سواء من قبل السلطة التنفيذية أو غيرها ـ مجرد تابع وملحق للجهاز الحكومي، ويتعامل معها على هذا الأساس، ويشعر أعضاؤها بأنهم فاقدي القدرة على الفعل والمبادرة فيترددون في اتخاذ الموقف الصحيح في معالجة القضايا وقت الأزمات. هكذا مؤسسة أو أعضاء لن يفيدوا البحرين ومستقبلها بشيء.

المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان ليست جهازاً حكومياً وإن أنشأتها الحكومة، وفقط استقلالها هو الذي يميزها عن الأجهزة الحكومية. بقدر استقلال المؤسسة حقيقة وواقعاً، بقدر ما يمكن الإستفادة منها والتعويل عليها في تطوير واقع حقوق الإنسان، وفي تطوير التجربة وبناء الكفاءات البحرينية الحقوقية في إطارها. أما إذا كان هناك أحدٌ ما يفكّر في إلحاق المؤسسة بحيث تتناغم في عملها مع السلطة التنفيذية، فإنه يحكم عليها بالفشل ابتداء، وبالتالي من الأفضل أن لا تشكّل هكذا مؤسسة لا تفيد في المحصلة النهائية لا الحكومة ولا المجتمع، ولا قضية حقوق الإنسان البحريني.

المؤسسة الوطنية القوية ذات المصداقية هي التي تفيد البحرين وتطورها السياسي والحقوقي وليس العكس. أي أن المؤسسة الوطنية الفعّالة هي تلك التي تتحرر من القيود الحكومية ومن الأحزاب السياسية ومن جميع الهيئات والكيانات التي تحاول التأثير على عملها ونشاطها.

2/ الهيكلة الإدارية والتنفيذية وفق مبادئ باريس

الواضح من بيان مجلس الوزراء الصادر في 22/11/2011، فإن الحكومة تتجه لإعادة تشكيل المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، فغرض قرار مجلس الوزراء من خلال تقديم مشروع قانون بشأن المؤسسة الى البرلمان، هو حسب البيان: منح المؤسسة الشخصية القانونية المستقلة، والاستقلال المالي والإداري الذي يكفل ممارسة عملها ومهامها بحرية وحيادية واستقلالية، وتفعيلا لمبادئ باريس المتعلقة بهذا الشأن، ومنحها مزيداً من السلطات والاختصاصات المتعلقة بحقوق الإنسان، وكذلك الحق في أن تطلب أية معلومات أو بيانات أو وثائق تراها لازمة لتحقيق أهدافها وإلزام أجهزة الدولة بالتعاون معها.

وفعلاً إذا ما تمّ الإلتزام بهذه المبادئ والمعايير، فإن البحرين يمكن أن تؤسس لنفسها مؤسسة وطنية حقوقية صحيحة ذات مصداقية تفيدها في الحاضر والمستقبل.

ولكن كيف نفعّل مبادئ باريس تلك ونطبقها على واقعنا الحقوقي وواقع المؤسسة الوطنية بوضعها الحالي؟

1/ ابتداءً لقد صدر أمر تشكيل المؤسسة الوطنية بمرسوم ملكي حدد الأهداف والإختصاصات وطريقة العمل وغيرها. ورغم أن مبادئ باريس لا تعتبر طريقة التشكيل هذه خاطئة، إلا أن مجلس الوزراء في قراره آنف الذكر، رأى أن يتولى المجلس التشريعي (البرلمان) إصدار القانون. وهذه خطوة أولى موفقة. وبالتالي على البرلمان وحسب مبادئ باريس أن يحدد قانون إعادة تشكيل (المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان) صلات المؤسسة بالدولة بشكل واضح، وأن يعين الحدود التي تمارس في إطارها عملها. ويفترض أن يوضح القانون مرجعية المؤسسة الوطنية، هل تكون مسؤولة مباشرة أمام الملك أم أمام البرلمان.

2/ لضمان استقلال المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، هناك مجالان ينبغي التأكد من تحققهما:

الاستقلال التنفيذي، بحيث تستطيع المؤسسة أو الهيئة الوطنية ادارة شؤونها باستقلال عن أية سلطة حكومية أو فرد أو مؤسسة أو إدارة، فلا يتدخل هؤلاء في عمل المؤسسة اليومي، ولا يخضع نشاطها وبالذات توصياتها وتقاريرها وقراراتها للمراجعة والفحص من قبل سلطة أعلى. لكن الهيئة لن تكون مستقلة تنفيذياً عند هذا الحدّ، ما لم يكن هناك قانون وتشريع يجبر الجهات الحكومية على التعاون معها والتجاوب مع مطالبها، وهذا يجب أن يكون ضمن القانون التأسيسي للهيئة الوطنية.

الإستقلال الإداري، وخاصة فيما يتعلق بإجراءات تعيين الأعضاء. فقد تبيّن أن واحداً من مشاكل المؤسسة الوطنية بوضعها الحالي هو عدم انسجام أعضائها لأسباب مختلفة، وضعف الكفاءة الحقوقية لبعضهم وكذلك الضعف في الجوانب الإدارية والقيادية. وهنا فإنه يجب ـ في حال تمّ إعادة تشكيل المؤسسة الوطنية مراعاة مبادئ باريس في هذا الجانب بالتحديد. فالمؤسسة بحاجة الى أن يكون أعضاؤها مستقلّون، فغير المستقلّين فرادى أو جمعاً عن السلطة أو غيرها لا ينتج لنا هيئة مستقلّة تقوم بعمل صحيح ومستقلّ. وهناك خطوات عديدة يمكن القيام بها لإشعار أعضاء المؤسسة الوطنية باستقلالهم، ومن بينها منحهم الحصانة من الملاحقات فيما يتعلق بالأفعال التي يقومون بها بصفتهم الرسمية.

ولذا فإن تعيين الأعضاء أمرٌ حاسم في تشكيل صورة المؤسسة الوطنية ومدى نجاحها. هذا يفرض معايير محددة في التعيين، سواء قام بذلك البرلمان أو غيره، بحيث يراعي جملة من المسائل في الشخص المعيّن وفي مجموع الأعضاء المعيّنين من حيث: الكفاءة والمهنية والمؤهلات، على أن يعكس الأعضاء في جملتهم تشكيلة المجتمع المذهبية والدينية، ومكوناته نساء ورجالاً، وأيضاً يراعي تمثيل منظمات المجتمع المدني، كنقابة العمال، والمنظمات الحقوقية الأخرى، بما فيها المنظمات المهتمة بشؤون المرأة والطفل، والأكاديميين والصحافيين، وغيرهم.

تجدر الإشارة الى أن عدداً من أعضاء المؤسسة الوطنية الحاليين جاؤوا من القطاع العام، ولم يتركوا مناصبهم. وعموماً فإن مبادئ باريس تحبّذ إشراك أعضاء برلمان ومسؤولين في الحكومة ضمن عمل المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، ولكن بصفة مراقبين ومستشارين.

3/ المساءلة وتنفيذ المهمّات الموكلة

في الإطار العام، هناك ثلاثة أنشطة يمكن للمؤسسة الوطنية لعب دور فيها: في مجال التثقيف والتعليم بقضايا حقوق الإنسان؛ وفي مجال تعزيز سلوكيات حقوق الإنسان خاصة فيما يتعلق بانضباط الأجهزة التنفيذية بالقواعد الحقوقية والقانونية؛ وأخيراً في مجال الدفاع وحماية حقوق الإنسان البحريني من الإنتهاك.

وفق هذه الخطوط العامة يمكن تقييم عمل المؤسسة ومعرفة مدى نجاحها من خلال منجزاتها على هذا الصعيد. ولما كانت المؤسسة مستقلّة في عملها وغير خاضعة لأي طرف رسمي أو تمثيلي عدا مسؤوليتها المباشرة امام الملك (كما هو حالياً)، أو ربما البرلمان مستقبلاً، فإن المساءلة لا تقف عند هذا الحدّ بل يجب أن تمتد الى الجمهور. على المؤسسة الوطنية أن تثبت جدارتها ومصداقيتها وشفافيتها أمام الجمهور من خلال ما تحققه، فهي ما أُنشئت إلا من أجل الإنسان البحريني، وذلك من خلال عرض ما قامت به وما حققته. ومن هنا تنبع الحاجة الى أن تقوم المؤسسة الوطنية بمراجعة دورية لأنشطتها، والتحقق من مدى التزامها بالخطط التي توصل الى الأهداف التي وضعتها لنفسها، ثم عليها أن تصدر التقارير بأنواعها والتي تكشف عن نشاطها ومنجزاتها. وسواء كانت التقارير بشأن قضايا محددة أو دورية فإن صدورها ونشرها في الإعلام هو الذي يساعد في تقييم نشاطها من قبل الشعب نفسه. وبهذا يتحقق اطلاع الجمهور على أنشطتها، وانجازاتها، ويقيم شفافيتها بما يحكم تفاعله وتعاونه معها في المستقبل.