حرية العبادة ومكافحة العنف بإسم الدين

انتشر في عالمنا العربي العنف السياسي بإسم الدين؛ وتكاثرت المنظمات التي تستخدم الدين، في تبرير العنف أولاً، وفي استثماره سياسياً تالياً.

هذه القضية ليست ثقافية محضة؛ ولا هي مجرد إرث تاريخي جلبته المجتمعات المتصارعة طائفياً ومذهبياً. بل أن العنف الديني أيضاً، وفي المقام الأول، له جذور آنيّة، واللاعبون فيه ليسوا من العالم السحيق الماضي، بل هم أحياء يعيشون بيننا. كما أن البيئة التي يُمارس فيها هذا العنف باسم الدين، اختلفت بسبب ظهور الدولة القطرية، فصار من واجباتها حماية المواطنين من العنف الديني ومنعه ابتداءً، ومقاومته عبر وسائل متعددة، يأتي في مقدمتها اعتماد حرية العبادة والمعتقد كأساس. فهذا جزءٌ من حلّ.

في محاولة لكبح جماح العنف باسم الدين، أدان مجلس حقوق الإنسان (جميع أشكال العنف والتعصّب والتمييز على أساس الدين، او المعتقد، أو باسميهما؛ كما أدان انتهاكات حرية الفكر، والوجدان، والدين، او المعتقد؛ وأيّة دعوة الى الكراهية الدينية، تشكّل تحريضاً على التمييز، أو العداء، او العنف؛ سواء باستخدام الوسائل المطبوعة، او السمعية، أو الالكترونية، أو أية وسائل أخرى).

ومع ان ظاهرة العنف باسم الدين تكاد تكون موجودة في دول بعينها او إقليم بعينه، إلا أنها تمددت لتصبح أشبه ما يكون بظاهرة كونية، منها اقليمية او محلية. ولقد سعى دعاة العنف الديني، الى إيصال رسائل الى العالم الخارجي، من خلال صور تهين الضحايا المختلفين دينياً، وبصورة وحشية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وذلك لاعطاء عملهم ترويجاً على المستوى العالمي.

هذا العنف الديني، الذي هو مسيّس في أكثر الأحيان، اتخذ أشكالاً متعددة، كالهجوم على مراكز العبادة، او استهداف أفراد ينتمون الى طوائف مختلفة، أو هجمات انتحارية في مواسم دينية او اجتماعية. لكن قد تقوم دول بعينها بممارسة العنف الديني، اي العنف الذي يتخذ من الدين مبرراته، وذلك تجاه فئات مختلفة مذهبياً او دينياً، فتقوم بمذابح، وطرد جماعي، واخفاء قسري، واعدام خارج اطار القانون، والاعتداء الجنسي والتعذيب وغيرها (روهينغا/ في بورما مثالاً)؛ او تحرم فئة من المواطنين او فئات من حقهم في العبادة، بحجج دينية (كأقليات مسيحية في بعض البلدان)؛ وقد تقوم هذه الدول بوضع تشريعات قمعية وتمييزية ضد الأقليات الدينية، ما يساعد على توفير المناخ لاستهدافها عنفياً، عبر نشر ثقافة الكراهية، والتشجيع عليها في وسائل الإعلام الرسمية.

لكن العنف الديني الذي قد تقوم به فئات محسوبة على الأكثرية، سرعان ما تصبح هي في داخلها مستهدفة أيضاً بالعنف، اما بحجة ان أفراداً بعينهم معتدلون دينياً، او غير ملتزمين بما فيه الكفاية بأهداب الدين. وبسبب شيوع العنف الديني، يتضاءل فضاء النقاش والنقد في المواضيع الدينية، ويصبح النقاش الطبيعي، بوابة لتكفير الآخر، ولاستهداف أصحاب الرأي المختلف بالعنف، وبذات التبريرات.

ومن هنا يثبت بشكل لا لبس فيه، بأن حماية الحريات الدينية، وحرية العبادة، والاعتراف بالمجموعات الدينية، يمثّل ضرورة ليس فقط في تعزيز الإنسجام الداخلي في المجتمعات المتنوعة طائفياً ومذهبياً، بل هو ضرورة ايضاً للأكثرية الدينية من أن يصيبها ويفتتها العنف الديني الأعمى.

وعادة ما تكون الإنتهاكات للحريات الدينية بوابة كل الشرور، لسهولة تمددها الى مجالات أخرى، سياسية واجتماعية وخدمية وثقافية. إن العنف الديني الذي يزعم حماية الدين بأفعال مشينة دموية، لا يدرك حقيقة ان الدين ليس بحاجة الى حماية أحد، بقدر ما هم البشر والمواطنون الذين يحتاجون الى الحماية في حياتهم الطبيعية. فما هو الدين ـ مثلاً ـ والذي تمت حمايته حين يقوم شخص بإلقاء الأسيد على وجه امرأة غير محجبة؟

ان العدوانية العنيفة والدموية التي تستخدم ضد المختلف دينياً، لا يمكن أن تبرر دينياً، أو تمثل استجابة لأوامر الدين. لأن القبول بهذا التفسير، يعني تبرير الحروب الأهلية التي تقوم على اسس طائفية، وكذلك تبرير الإعتداء الجمعي على النساء واسترقاقهن وبيعهنّ في أسواق النخاسة. وفي بعض الأحيان، هناك من يضع هذا اللون من العنف الأرعن في سياق الحروب التاريخية الطائفية، سواء بين المسلمين، أو بين المسلمين وغيرهم. كل هذا بغرض إخفاء الأهداف السياسية المحلية الحاضرة وراء هذا العنف.

هناك عوامل غير دينية، ولا صلة لها بالتاريخ بالضرورة، هي التي تؤجج العنف الديني، وهي التي تبرره، وهناك فئات اجتماعية او شخصيات بعينها، ترى في العنف الديني طريقاً للحصول على المكاسب السياسية. وعلينا دائماً الإلتفات الى هذه العوامل، التي قد يكون بينها: طغيان الاستبداد السياسي في بلد ما، ووجود عوامل الفقر والتمييز الإجتماعي والثقافي والإقتصادي والسياسي، وكذلك وجود سياسات رسمية في الإستبعاد، والتهميش لفئات معينة، وانعدام المساواة بين المواطنين، وتشقق النسيج الإجتماعي، واستشراء الفساد والمحسوبيات السياسية، واتساع عدم الرضا عن السياسات العامة، فيلجأ السياسيون الى تحويل الخلافات السياسية والمطالب الحقوقية البديهية الى خلافات طائفية او مذهبية.

ومن العوامل فقدان الثقة في مؤسسات الدولة الضعيفة وغير الفاعلة، وشيوع ثقافة الإفلات من العقاب، وإنكار حدوث انتهاكات خطيرة، ووجود مضخّات شحن طائفي خارجية او داخلية، اعلامية ودينية؛ وفي الغالب فإن تحديد دين او مذهب الدولة يوظف في كثير من الأحيان في اجحاف او اضطهاد الأقليات الأخرى.

وعليه، لا يجب ان نقبل بالتحليلات السطحية لظاهرة العنف الديني، بل علينا التفتيش فيما وراءها، من عوامل اجتماعية وسياسية ونفسية وثقافية، حتى يمكن معرفة حقيقة الأسباب ومعالجتها.

إن من يرتكب العنف، هو إنسان، وليس الدين؛ ولا يمكن وصم الأديان بأنها عنفية او غير متسامحة، فهذا تعميم غير مقبول. الصحيح ان هناك أفهام متعددة أنتجها الإنسان، وبعضها أو القليل من تلك الأفهام او التفسيرات، تنطوي على إشكاليات تبرر العنف. بمعنى آخر، هناك اعتراف بأن بعض العنف الديني له دوافع دينية، ولكن في كثير من الأحيان، تكون الدوافع مختلطة لغايات سياسية واقتصادية.

السؤال كيف تمنع الدول، نمو ثقافة العنف الديني، وتمنع البلاد من الانزلاق في حروب داخلية، كما من المذابح وغيرها؟

علينا ان نقر أولاً، بأن الدولة مسؤولة عن حماية مواطنيها من الاعتداءات، والجرائم التي ترتكب ضد الانسانية، وايضاً من التحريض بشتى اشكاله، عبر ضبط مؤسساتها الاعلامية والتعليمية. فمثلاً يجب أن لا تحتوي الكتب الدراسية على صور نمطية، وتحاملات قد تبعث على التمييز، او تؤجج المشاعر العدائية تجاه اية فئة دينية.

والدولة مسؤولة مرة اخرى عن قيام ثقافة وطنية جامعة، تستطيع ان تحتوي الثقافات الفرعية الأخرى، وأن تقوم الدولة بعمليات تثقيف وتوعية من اجل تعزيز الاحترام المتبادل للثقافات الدينية، وتقدير التعددية الدينية، داخل المجتمع.

والدولة ايضاً مسؤولة مرة ثالثة عن احترام حرية الدين والمعتقد، وجميع حقوق الإنسان الأخرى، والغاء التشريعات التي تلغي حقوق بعض الطوائف الدينية، وأن تمنحها شرعية البقاء والممارسة. وايضاً فإن الدولة مسؤولة عن الغاء التمييز بين المواطنين على أسس طائفية او عرقية او غيرها، فهذا التمييز يؤسس لحالات العنف ويبني عليها. كما على الدولة ان تمنع كافة أشكال الاضطهاد الديني الذي قد تمارسه أجهزتها الرسمية أو الأطراف الفاعلة غير الرسمية.

والأهم من كل هذا، هو أن لا تنخرط مؤسسات الدولة في إذكاء الصراع الطائفي او الديني، وأن تكون هناك قوانين تجرّم الكراهية والعنف الديني، وان لا تقبل بأن يتسلّق افراد طائفيون الى المراتب العليا في أجهزة الدولة. وزيادة على ذلك، أن لا تشارك مؤسسات الدولة، وأفرادها، في صراعات دينية عنفية او في إذكاء الطائفية في بلدان أخرى.