حتى لا تتحول جمعياتنا الحقوقية الى أحزاب سياسية

حسن موسى الشفيعي

حسن موسى الشفيعي

في إطلالة عامة على الساحة السياسية والحقوقية في البحرين اليوم، نجد معسكرين سياسيين لكل منهما أدواته السياسية والإعلامية والحقوقية والدينية والشعبية.. معسكرين متنافرين، ولكن كل معسكر منهما يشكّل كتلة صمّاء واضحة المعالم، تذوب فيها الفروقات، بين ما هو سياسي او حقوقي أو مذهبي أو ثقافي او حتى أيديولوجي، بحيث يكاد ينبعث من كل من المعسكرين صوت واحدٌ غالب على كل الأصوات، وبحيث يشعر الناشط الحقوقي بأنه فقد خصوصيته وأدواته وتميّزه، وبدا كأنه سياسي محترف يتحدث بلغة حقوقية، فهو إما يطعن في النظام أو يطعن في المعارضة. أي ان الناشط الحقوقي صار جزءً من ماكنة سياسية واضحة المعالم، ولم تعد المسألة مجرد خلط بسيط في المقاربة بين ما هو سياسي وما هو حقوقي. حتى أهداف الحقوقيين ضاعت في خضم الصراع السياسي، بحيث أن الانضمام الى أحد المعسكرين جعل المنضوين تحت لوائهما من الناشطين الحقوقيين مسكونين بالهدف السياسي، وبالطريقة والمقاربة التي يقررها ذلك السياسي.

كل شيء مسيّس اليوم في البحرين. ويكاد المرء أن يقول أن كل ناشط في الشأن العام، قد حدّد خياراته السياسية او أصبح جزءً تلقائياً ضمن أحد المعسكرين.

في مثل هذه البيئة، نحن بحاجة الى العودة الى البدايات والاسئلة البديهية نطرحها على أنفسنا حتى لا تتيه البوصلة بأكثر مما تاهت حتى الآن.

مهمّة الناشط الحقوقي تطوير أوضاع حقوق الإنسان وليس مصادمة النظام السياسي بالضرورة؛ فقد تستدعي الحاجة الى التعاون معه. في غير هذه الحالة، يمكن للناشط الحقوقي ان يتحول الى ناشط سياسي، لأنه قرّر ابتداءً بأنه لا يمكن تحقيق الأهداف الحقوقية إلا من خلال أدوات السياسة، او من خلال التغيير السياسي (الجزئي أو الكلي)؛ مع الاعتراف بتأثير تطور الوضع السياسي على الحقوقي، والعكس صحيح.

حين أنبّه بعض المدافعين عن حقوق الإنسان في البحرين الى هذه الحقيقة، يجيبني بسؤال: ولكن لدينا نظام ديكتاتوري ويستخدم كل ادوات البطش والقمع ضد الناشطين، وبالتالي لا بدّ من تغييره أولاً، وإلاّ فإن النشاط الحقوقي يصبح عديم الفائدة؟.

ما عساي أن أجيب؟ الديكتاتورية نسبيّة في كل بلد. بعض النظم السياسية قبلت بأن تتطور الى نظم (أقلّ قمعيّة) أو بالتعبير الإيجابي الحديث (ديمقراطية ناشئة)؛ وبالتالي فإن هناك مساران لا يمكن الخلط بينهما: مسار المعارضة السياسية، سواء خارج اطار القانون، أو ضمن ما يسمح به في حال وجدت تشريعات تسمح بتأسيس أحزاب سياسية؛ ومسار النشاط الحقوقي في إطار منظمات المجتمع المدني.

الخطأ هو أنه حين اشتدّ الصراع في المسار السياسي في البحرين، جرى اختطاف المسار الحقوقي، ولم يستطع المقاومة من أجل شيء من استقلاله وفق معايير حقوق الإنسان الدولية التي تفرض القدر المستطاع من الحيادية والموضوعية والمهنية.

في غير هذه الصورة، يصبح الكلام عن حقوق الإنسان مجرد مسوغات سياسية، فأنت ـ أيها المدافع عن حقوق الإنسان ـ تنتقد النظام أو المعارضة لا بهدف تحسين الوضع الحقوقي، وإنما لهدف يقرره السياسي في هذا المعسكر أو ذاك، ليصار لاحقاً الى تخفيض القيمة الإنسانية للعمل الحقوقي، وليكون مجرد وسيلة إدانة لأحد الطرفين؛ والى حد أن البعض يستبشر خيراً إن وقعت المزيد من الإنتهاكات من قبل النظام، لأنه بأخطائه قدّم له مادّة للتشهير والإدانة السياسية.

ترى من يلتفت لآلام الضحايا وللدماء وللإضطراب الأمني، أو يشعر بآلام الناس العاديين؟ لا أقول للسياسي توقّف عن نشاطك وتخلّى عن أهدافك؛ بقدر ما أقول للحقوقي: لماذا تخلّيت عن أهدافك، لماذا سقط البعد الإنساني في معركتك من أجل حقوق الإنسان؟ أنتَ هدفك تقليص حجم الإنتهاكات الحقوقية، وتوسعة فضاء المنافع للمواطن في بعد الحقوق المدنية والسياسية؛ وليس هدفك سياسياً بالمعنى الذي يشرحه سياسيّو أحد المعسكرين السياسيين المتصارعين.

كمدافع عن حقوق الإنسان، فإني أواجه بكثير من الأسئلة، سواء من زملائي وغيرهم، مثل: لماذا اخترتَ التعاون مع الحكومة البحرينية؟ هل هناك فائدة مما تقوم به؟ ألا يعتبر ما تقوم به مبرراً لها وتلميعاً لسلوكها وتغطية على انتهاكاتها؟

أيضاً فإن بعض الناشطين الحقوقيين البحرينيين، لا يقصرّون في ترويج اتهامات العمالة والسمسرة، والتسلّق على آلام الآخرين لتحقيق مصالح خاصة، وغيرها مما يقال لأطراف حقوقية إقليمية ودولية.

جوهر الخلاف فيما ذكرته أعلاه. أي أنه خلاف في المنهج والمقاربة للموضوع الحقوقي. لا أحد يستطيع أن يزايد على شخص ـ ومن خلفية سياسية معارضة ـ قضى نحو ربع قرن في الدفاع عن حقوق الإنسان البحريني. أدركُ الفارق بين العمل السياسي والحقوقي؛ وأُدرك بأن وظيفتي ومهمتي المحددة هي تحسين أوضاع حقوق الإنسان من خلال التواصل مع الحكومة، والمنظمات الدولية، ومؤسسات الأمم المتحدة، وشبكة العلاقات الواسعة، معتمداً على خطاب حقوقي، مهني.

العمل مع الحكومة لا يعني القبول بالإنتهاكات التي تقع، ولا يعني التغطية عليها، بل أنا أقوم بما يقوم به الزملاء الحقوقيون الآخرون مع فارق أنني أوصل المعلومة الموثّقة وأضعها في سياقها الصحيح، وأقدم حلولاً لحل مشاكل حقوقية، وقد نجحت في الكثير منها، والأهم هو أن غرضي في كل هذا ليس سياسياً، وإنما هو في عمقه وجوهره إنسانيّ حقوقي وطنيّ بحت، لا أتقصد منه التشهير والإحراج ولا التوظيف السياسي.

لا غنى للمدافع عن حقوق الإنسان من علاقة متوازنة مع الحكومة، إذ كيف ستطوّر وضعاً حقوقياً بالصدام معها، وهذا ما لا تقوم به كل منظمات حقوق الإنسان الدولية التي تفتح قنوات الحوار والتواصل مع المسؤولين حتى في أعتى النظم ديكتاتورية. بينما نحن في وطن قبلنا بثوابته السياسية، وكان هنالك فضاء واسع للمجتمع المدني والأحزاب السياسية والإعلام، أفيكون من العقل والحكمة أن نقطع العلاقة ونفضل الصدام مع الحكومة (خدمة لحقوق الإنسان)؟ وكيف يكون ذلك صحيحاً؟

هذا الجدل ليس جديداً على أية حال، وقد بدأ بيني وبين زملائي في مركز البحرين لحقوق الإنسان منذ أن قمنا بتأسيسه معاً في بدايات عام 2000. وبسبب اختلاف المنهجية انسحبت؛ وهنا أريد أن أذكّر زملائي بأن يعيدوا قراءة أهداف ووسائل المركز، التي تضمنها النظام الأساسي للمركز (نشر في الجريدة الرسمية)، حتى ندرك جميعاً كم نحن ابتعدنا او اقتربنا من تحقيق تلك الأهداف، وما إذا كنّا فعلاً نستخدم الأساليب والمناهج الصحيحة في تحقيقها.

في العلاقة مع الحكومة البحرينية، ومن خلال التجربة الشخصية الطويلة، فإن هناك إرادة لدى قيادة البلد في تطوير اوضاع حقوق الإنسان الى حدّ كبير، وقد اكتشفت أن النقص الأساس يكمن في فهم هذه الموضوعة الجديدة التي أسمها (حقوق الإنسان وفق المعايير الدولية)؛ فكل مؤسسات الدولة ومنذ اكثر من نصف قرن تأسست على ثقافة مختلفة؛ فكيف تعيد تشكيل كل هذه المؤسسات الرسمية، وتصحح سلوك الأفراد وفق الضوابط والمعايير الحقوقية وتلزمهم بها؟.

لقد أُتيحت لي فرصة الإجتماع عن قرب مع كبار الوزراء والمسؤولين المعنيين بملفات حقوق الإنسان، وقد تحدثت اليهم واستمعت منهم حول عشرات القضايا الحقوقية المثيرة او الطارئة، موضحاً الأخطاء، ومقترحاً الحلول، ومنتقداً بعض السلوكيات والتشريعات، وقد أثمر هكذا نشاط في حل العديد من القضايا.

وقد يسأل أحدهم: ولماذا يقبل النظام أن يسمع منك؟ ربما لأن المسؤولين ـ في ظنّي ـ أدركوا اختلاف المنهج في العمل والغاية منه؛ وفي كل الأحوال أنا ممتنّ لكل أولئك المسؤولين الذين أفسحوا لي المجال لألتقي بهم، والذين يتحملون نقدي وصراحتي التي قد تكون مؤلمة في بعض الأحيان؛ كما أنا ممتنّ لهم ان تحمّلوا إزعاجي وإلحاحي، وأنهم أتاحوا لي نافذة أخدم بها حقوق الإنسان في وطني باستجابتهم لقليل او كثير مما أطلبه وأقترحه وأدعو إليه.

ينبغي هنا أن أوضح أيضاً، بأن نشاطي الحقوقي، ومنهجيتي في العمل، تلقى قبولاً واسعاً لدى كل المنظمات الحقوقية الدولية بما فيها المفوضية السامية لحقوق الإنسان. فكثير من مسؤولي تلك المنظمات يدركون عن قرب ما أقوم به، ويقدّرون التعاون المشترك والآراء والمقترحات التي أعرضها.

ختاماً، في الوقت الذي نلاحظ فيه انخراطاً من قبل السياسيين ـ خصوصاً المعارضة ـ في العمل الحقوقي؛ نجد في المقابل انخراطاً من قبل الناشطين الحقوقيين في العمل السياسي وإن كان بمظهرٍ حقوقي؛ ما يفتح الباب مجدداً لتساؤل حول ضرورة مراجعة طريقة العمل الحقوقي في البحرين، حتى لا تتحول جمعياتنا الحقوقية الى أحزاب سياسية في صميم عملها؛ وحتى لا نخسر جميعاً مصداقيتنا الحقوقية.