|
حسن موسى الشفيعي |
خطاب الكراهية وضرورة إعادة البناء
حسن موسى الشفيعي
ينطبق على البحرين التحذير القرآني الكريم: (ولا تكونوا كالتي نقضت
غزلها من بعد قوّة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، أن تكون أمّة
أربى من أمة). فهذه بلادنا، وبعد أن كان يضرب بها المثل خليجياً في
احترامها للتعدد والتنوع الثقافي والمذهبي والتسامح، أصبحت متشرذمة
إجتماعياً بعد أن اجتاحها طوفان الطائفية، ولعب في نسيجها سرطان الكراهية،
وجاس في ديارها تيار العنف والتشدّد. كلّ هذا تمّ بأيدي أبنائها، بنخبهم
السياسية والثقافية والدينية والإعلامية، حيث قادوا شرائح مجتمعهم
الى التذرّر والتطرّف والعنف والبغضاء والإنقسام.
ثمار عقود طويلة من المحبّة والوئام والسلم الإجتماعي، ذهبت سدى
على مذبح المنافع الخاصة، وباستهتار مريع، لنصل اليوم الى الحديث من
جديد عن كيفية اعادة ما ضاع، ولنتساءل لماذا وصلنا الى هذا الإنفصام
المقيت؟
الإستعجال في تخريب النسيج الإجتماعي، وإطلاق موجة الكراهية والعنف
غير مسبوقة، ولهذا فإنها بحاجة الى عقود من البناء، فما أسهل الهدم،
وما أصعب البناء. ثلاث سنوات من التدمير الذاتي، ربما تحتاج الى ثلاثة
عقود لإعادة ما انهدم في أنفسنا وفي مجتمعنا. والبناء الذي بدأ بعضنا
يفكّر فيه ويحضّ عليه، لن يكون سهلاً، ولا يتمّ بالوعظ الديني، وبالمقالات
والخطابات والتسويات الفوقية، بقدر ما يحتاج الى رؤية استراتيجية صحيحة،
قائمة على أُسس علميّة، تعالج المشاكل من جذورها، بحيث تجمّد ـ إن
لم تقضِ ـ على خطاب الطائفية والكراهية، وتزرع الأمل في الأجيال القادمة
بعيش مشترك مكين، وبحرية وعدالة ودولة قانون.
خطاب الكراهية مجرد منتج لأداء المجتمع بقواه السياسية والإجتماعية.
هو متفرّع من الطائفية التي كانت نائمة فأيقظها الشيطان، ولا يمكن
مكافحة المنتج دون الغوص بعيداً الى جذوره واستئصالها. لكن هل هذا
ممكن؟
يرى البعض بأن خطاب التحريض والكراهية في البحرين إنما يعود الى
عدم تغلغل الإيمان بسواسية أبناء المجتمع، والى عدم احترام التنوّع..
وبعض آخر رأى السبب كامناً في سياسات التمييز؛ ومحاولات السياسي استثمار
الخطاب الطائفي الكامن في الصراع السياسي مع أو ضد النظام السياسي
القائم.
لكن ما يلفت النظر هنا هو أن خطاب التحريض والكراهية الطائفي والعنصري
والقبلي وغيره، إنما هو خطاب قديم، كامن في خلايانا جميعاً.. هو ليس
خطاباً طارئاً، بل كان خطاباً مدجّناً مسيطراً عليه، في حين ان الخطاب
الذي يراد استزراعه ليكون متسامحاً ومتعايشاً مع الاخر، انما هو خطاب
جديد، حاول المثقفون تأصيله فترة السنوات العشر الأولى من عمر الإصلاحات،
ولكنه لم يترسخ بما فيه الكفاية. وبالتالي حين انفجرت الأزمة السياسية،
ظهر الخطاب القديم الراسخ في أعماقنا متغوّلاً مشحوناً بالبغضاء والخشية
من الآخر، ليأكل المنجز الذي كنا ننتظره في دولة الحرية والعدالة والمساواة
والتسامح، ويقضي عليه.
من حسن الحظ، أننا لم نصل الى حدّ التقاتل، خاصة في ظروف منطقة
تمور بالصراعات والتحولات السياسية، يوظّف فيها الخطاب الطائفي، خطاب
الكراهية، والعنصرية، بأعلى درجاته، وهو أمرٌ لم يحدث من قبل في التاريخ
الحديث.
وما جرى في البحرين، لم يكن سوى امتداد لحالة عامّة خارجية، وربما
كان جزءً مما جرى جاء بفعل الموج الخارجي فأثّر على شرائح مجتمع باتت
تشعر بالخشية على ذاتها، ولم تجد سوى الطائفة ملاذاً لها، وسوى الخطاب
الطائفي مسوّراً لتخومها حماية لها من الإختراق النفسي والسياسي.
السياسة ومصالح السياسيين كان سبب تفجير أزمة الخطاب الطائفي. نعم
فإن الخطاب الطائفي ـ الذي هو موجود طيلة العقود الماضية ـ بقي محدود
التأثير في شرائح مهملة، ولم يكن منتشراً أو مؤثراً على الحياة الإجتماعية
العامة بين السنّة والشيعة. ولكن انخراط السياسيين في استثماره أدّى
الى تعميمه في القمّة والقاعدة على حدّ سواء، وشمل المؤسسات الأهلية
والرسمية والدينية والمجتمع المدني وغيرها. لم يفلت منا أحد، بل يمكن
القول انه لم ينجح فينا أحد. فكلنا أصبنا بلوثة الطائفية وبمشاعر النمطية
في النظرة الى الآخر، وكلنا تحدثنا عن طوائفنا بدلاً عن وطننا الموحد..
أصبحت طموحاتنا محصورة في ذواتنا، وإن تمّ قولبة بعضها وكأنها مشروعات
وطنيّة؛ فهذا يرفع شعار: (اخوان سنّة وشيعة) في حين لا سنّة موجودين
سوى بضعة أنفار، وهو يعلم أن ما يهمّه من حضور السنّي حضور مشروعه
السياسي. وذاك يسمّي فعاليته بـ (الوطنية) وهو يعلم ان الاخر (غائب)
ولا وجود له. وثالث يغلّف مواقفه بالوطنية في حين أن مشروعاته في جوهرها
تكرّس حالة الطائفية والفرز في المجتمع.
الوطنية كلٌّ يدّعي وصلاً بها، في حين انها لا تعدو سوى القشرة
الرقيقة التي تغطّي مشاعرنا وحساباتنا الطائفية.
وفوق هذا، لاتزال المنابر الدينية والسياسية تصدح بالطائفية. بعضهم
يتذاكى على الناس، وكأنهم لا يفهمون اللغة العربية، ولا يقرأون ما
تحت السطور، فيتجنّبون بعض الأوصاف والكلمات ولكن المعنى في جوهره،
والأهداف في جوهرها.. طائفية، بل حتى الإتهامات ضد (الآخر) والضرب
تحت الحزام، حاضرة في كل الخطاب. وهناك آخرون، لا يهتمون بتزويق خطاباتهم،
ويوصلونها الى الجمهور بأقرب الطرق وأسرعها فتكاً. فأولئك صفويون؛
فيرد الاخر بأنهم: مرتزقة ومجنّسون؛ في حين لا تجد خطابات الكراهية
محاسبة من أجهزة الدولة، وكأنها غائبة تماماً عن المشهد، إما لأنها
لا تستطيع محاسبة هذا الشيخ، أو ذاك السياسي، أو تلك المؤسسة، نظراً
لحصانات مفتعلة معنوية، أو لخشية أن تتهم بمحاباة هذا الطرف أو ذاك.
ترى ماذا يتبقى من دولة المؤسسات والقانون والتسامح والاعتدال،
التي نزعمها، اذا ما غاب عنصر المحاسبة؟ وكيف يمكن وقف الضخّ المستمر
لنار الفتنة السياسية والطائفية، فضلاً عن الوصول الى حلول، اذا كان
الوقود متوفراً يجوز استخدامه؟
يريد البعض أن يلقي بتهمة ترويج خطاب الكراهية على الدولة وحدها؛
وهي حقاً تتحمّل المسؤولية الأكبر، خاصة إن سمحت لأجهزتها المشاركة
فيها، أو وفّرت الأرضية للتنازع الإجتماعي، أو قصّرت في التعاطي مع
المواطنين على قدم المساواة. لكن هذا ـ إن صحّ ـ لا يمكن أن يلغي مسؤولية
المجتمع بشرائحه السنيّة والشيعية، بمن فيهم النخب المتعلمة والإعلاميين
ورجال الدين، والسياسيين بشتى أصنافهم: الدينية والليبرالية والعلمانية.
حين تشتعل مشاعر التطرف، فإن الجميع يشارك في الفتنة والترويج لها.
الجميع يتأثرون ويؤثّرون. ولو لم يحدث ذلك ما كنّا وصلنا الى ما وصلنا
اليه اليوم.
عبثاً حاول البعض ان يحل الإشكال بعيداً عن السياسة. كالدعوة الى
حوار بين رجال الدين، ووضع قوانين تضبط الخطاب الديني، لكن رجال الدين
وحتى الإعلاميين إنما يتحرّكون في فضاء السياسة، ومحكومون بمعادلاتها،
إن لم يكن بعض هؤلاء مدفوعين من السياسيين أنفسهم لتبنّي خطاب بمواصفات
تحريضية تعمّم الكراهية في المجتمع.
هل نبدأ بالحوار الداخلي المجتمعي أولاً لنصل الى حلّ سياسي؟ أم
نبدأ بحل سياسي كون المصالح السياسية هي التي فجّرت الأزمة ومن ثمّ
سينعكس ذلك على النسيج الاجتماعي بما يخفض من سقف الكراهية؟
صعب أن تجد حلاً سياسياً بدون تهدئة مجتمعية؟ لماذا؟ لأن السياسي،
وهو إذ ينظر الى رصيده من الجمهور، يخشى ان يقدم على تنازلات مطلوبة
للحل التوافقي، فيثور عليه جمهوره كلما بدرت منه بادرة تنازل متبادل.
فالشارع المتوتر بخطاب الكراهية لازال يحكم القيادات السياسية التي
شحنته ـ بادئ ذي بدء ـ بالداء الطائفي، ولازال يقلّص من هامش مناورتها
السياسية من أجل الحل.
أيضاً فإن الحوار المجتمعي سواء بين المجتمع المدني، او بين رجال
الدين، او بين المثقفين على ضفتي الموالاة والمعارضة، إن لم يكن السياسي
مؤيداً ودافعاً له، فإنه سيفشل؛ ففي النهاية لا تستطيع ماكنة المجتمع
أن تتغلّب على إرادة السياسة، وتفرض ارادتها عليه.
لهذا نقول بأن المصالحة السياسية يجب ان تترافق مع المصالحة الإجتماعية.
وكما الهدوء في الخطاب السياسي مطلوباً لتهيئة الأجواء وإنجاح الحوار
بما ينعكس على الوضع الاجتماعي ويضعف خطاب الكراهية؛ كذلك فإن الحوار
الداخلي المجتمعي بحاجة الى ترطيب والى مبادرات، تشجع السياسي على
الإقتراب من الحل.
لقد دمّرنا ـ بجهلنا ـ جميعاً منجزنا السياسي التاريخي في التعايش
والتآلف؛ فهل نستطيع بعد أن كبونا أن نستفيد من التجربة وأن نعيد بناء
البيت الواحد ليظللنا جميعاً في أمن واستقرار؟
|