|
حسن موسى الشفيعي |
شروط نجاح المصالحة الوطنية
حسن موسى الشفيعي
مرّة أخرى ترتفع الآمال لدينا ولدى الشارع البحريني، بل ولدى الحريصين
على استقرار وتطور البحرين، سواء من دول أو مؤسسات، من أن حلاًّ قريباً
للأزمة السياسية والحقوقية قاب قوسين أو أدنى، حيث انتعشت الآمال بسبب
تصدّي ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة لموضوع الحوار، وانتشار
تسريبات من أطراف متعددة من أن صفقة حلّ في الطريق.
نتمنّى هذه المرّة أن تكون تمنياتنا في محلّها، وأن البحرين على
موعد مع الإصلاح والتغيير والإستقرار. إذ أنها بحاجة ماسّة الى ولادتين:
ولادة تخرجها من الأزمة السياسية من خلال إنجاح الحوار الوطني، واستنبات
نظام سياسي يعمل على إرساء الديمقراطية ويشترك في بنائه الجميع. وولادة
جديدة للمجتمع المدني وبروز تطورات تعيد تأكيد ثوابت حقوق الإنسان،
واحترامها حقاً على أرض الواقع. وهناك إرهاصات أمل ومؤشرات لهاتين
الولادتين.
فيما يدور الحوار بين الأطراف السياسية، فإن الأوضاع لاتزال صاخبة
في الشارع، بل أن حرارة تحركات هذا الأخير عالية، والعنف لم يتوقّف،
إن لم يكن قد تصاعد مؤخراً على وقع أخبار بقرب انفراجات. لكن ـ ولكي
يكون البناء صحيحاً لمستقبل آمن ومستقر في البحرين ـ فإننا نبحث عن:
حل دائم للأزمة السياسية، فالحلول المؤقتة لا تنتج إلا استقراراً
مؤقتاً. ولقد تعب البحرينيون من انفجار الأزمات بشكل متكرر خلال العقود
الطويلة الماضية. هذا يؤشر الى أن أسس المشكلات لم تحلْ بشكل جذري،
ربما لأن الحلول الجذرية تتطلّب تغييرات راديكالية في البنى السياسية،
وهناك من يخشاها، وهذا ما رجّح التغييرات (التدرّجيّة) التي عادة ما
تفقد زخمها مع الزمن، بحيث لا تصل الى معالجة الجذور.
حل توافقي يتمتع بصفة الديمومة أيضاً، بحيث ان ما تتفق عليه القوى
المجتمعية اليوم، لا يجري تغييره أو الإنقلاب عليه غداً. هذا يعني
أن يعتمد الحلّ على رضا الأكثرية الشعبية في كل المكونات الاجتماعية،
إذ بدون رضا هذه الأكثرية، تكون التسويات السياسية هشّة وقصيرة العمر.
وهنا، لكي يتحقق ذلك الرضا، فإن التسويات يجب أن تكون قائمة على أسس
العدالة، والتوازن، بحيث يمكن (الإقناع بها) و (الدفاع عنها) و (المجادلة
بشأنها) ومن ثم (تحقيق الرضا الشعبي).
الحل التوافقي، كما ذكرنا ذلك مراراً يعتمد على قيام نظام سياسي
يعتمد على ثلاثة عناصر، أو لنقل ثوابت:
ملكيّ، إذ لا سبيل لتغيير النظام السياسي
من قبل طرف واحد من اللاعبين السياسيين، لا بالقوّة ولا بالإقناع!
الملكيّة يفترض أن تكون مظلّة لمكوّني المجتمع، وناظم للخلاف والتوازن
السياسي، ويمكن لها أن تتطور الى ملكيّة دستورية في المستقبل، حسب
نص الدستور.
توافقيّ، أي أن تتفق مكوّنات المجتمع
على سقف التغييرات، وتحدّد وجهة النظام وسياساته، والمشاركة فيه.
ديمقراطي، بحيث يتّسق مع المبادئ الحقوقية
العالمية في العدالة والمساواة، والمحاسبة، واحترام التنوع، واحترام
رأي الجمهور وخياراته وإرادته فيمن يمثله، والتمتع بحقوقه المدنية
والسياسية.
إن توافق الأطراف الثلاثة: الشيعة والسنّة والعائلة المالكة، هو
أساس الحل. لا أحد يستطيع أن يلغي الآخر سياسياً. وقد جربت البحرين
ذلك من قبل؛ والبعض يعتقد أن الفرص متاحة لإنجاح الحوار الحالي، لأنّ
جميع الأطراف السياسية وصلت الى القناعة التي كان يجب أن تتعلمها منذ
ثلاثة أعوام، وهي أن: لا القوّة، ولا التهميش، ولا التمييز، ولا الشارع
ومظاهراته، ولا العنف، ولا القبليّة، ولا الطائفية وتأجيجها بقادرة
على إلغاء موازين القوى بشكل راديكالي لصالح طرف على حساب مصالح الأطراف
الأخرى.
هذا لا يكفي، وإنما المطلوب للخروج من الأزمة السياسية التالي:
1/ التنازلات المتبادلة: بالرغم من أن
البحرين لم تهدأ طيلة الأعوام الثلاثة، إلا أنها ولعامين على الأقل
كانت تمر بمرحلة جمود سياسي طويلة. ورغم تقديم المشاريع السياسية،
وظهور دعوات عديدة للحوار، بل وانعقاد جلسات حوار، إلا أنها كانت تصل
في النهاية الى الفشل. والسبب يعود بنظرنا الى أن الأطراف جميعها لم
تكن مستعدة لتقديم التنازلات الضرورية لنجاحه؛ وكان كل منها ينتظر
من الآخر تقديم التنازل ليحوز هو على (حصّة الأسد). هذا لا يكون في
السياسة، فمادامت القوة متكافئة، لا يبقى سوى الحل السياسي، ولا يوجد
حلّ سياسي بدون تنازلات ـ قد تكون مؤلمة ـ من كل الأطراف السياسية.
نعم.. يمكن لكل طرف أن يرفع سقف الأهداف والمطالب، فهذا من أدوات
التفاوض، لكن حين يحين الجد، ويبدأ الحوار، فيكون لزاماً على كل طرف
أن يعرف ماذا سيقدّم من تنازلات ليصل المتفاوضون الى توافق ومن ثمّ
الى حلول تسووية.
في غير هذه الحالة، فإن من يصرّ على عدم التنازل يتحمّل مسؤولية
استمرار الأزمة بلا أفق، ولا نظنّ ان البحرين اليوم بحاجة الى الاستمرار
في حالة الجمود والإستنزاف لطاقات الدولة والمجتمع في صراع سياسي حادّ
أثر على كل مناحي الحياة، وعمّق الشروخ بين فئات المجتمع المُتعَب،
بل وأضعف مكانة الدولة بين الأمم، وأساء الى سمعتها، وجعلها عرضة للتدخلات
الخارجية أكثر من أي وقت مضى، فأيّ عاقل يريد استمرار هذا؟
2/ بناء الثقة: وهذا لا يتمّ إلا بسحب
القرار من الشارع الى النخب السياسية. فقد أُقحم الجمهور في الصراع
السياسي مدّة طويلة، إما من أجل تغييرات راديكالية في البنيان السياسي،
أو كأسلوب حمائي لمكتسبات قائمة، أو لشرعنة قرارات وتوجهات بعينها؛
أو بغرض تحسين شروط التفاوض التي قد تأتي لاحقاً.
الآن تبيّن ـ أو سيتبيّن في وقت قريب ـ أن وجود الشارع المتوتر
صار عبئاً على الحوار، بعد أن كان مطلوباً في الصراع السياسي الحادّ،
وبعد أن تمّت تغذيته ـ للأسف ـ بروح الكراهية والطائفية والصور النمطية
للخصم، الى الحد الذي لم يعد بإمكانه قبول الحلول التسووية. وهنا على
جميع الأطراف في طاولة الحوار، تحجيم حضور هذا الشارع الذي يرفض التنازلات
المطلوبة لإنجاح عملية المصالحة السياسية، من خلال إيقاف مضخّات الطائفية
والتحريض على الآخر في الإعلام والمنابر الدينية، والبدء بخطاب جديد
عقلاني يتفهم مخاوف الآخر، ويشجّع على ضرورة التعايش المجتمعي، ويبيّن
فوائد ذلك على الدولة والمجتمع بكل فئاته.
ويجب التأكيد في الخطاب الجديد على أن التنازل الضروري لا يعني
الإفتئاث عليه أو التفريط بحقوقه، وإنما هو إيجاد عملية متوازنة لتحقيق
مصالح الجميع. ذلك أنه، ومنذ بداية الأحداث، تأكّدت قناعات عند كل
الشرائح الاجتماعية وممثليها السياسيين، بأن هناك نظاماً سياسياً سيولد
من جديد؛ وهذا ما بشر به الكثير من المحللين وبعض رموز الحكم أنفسهم
بعبارات مختلفة. وهذا ما ولّد خشية وقلقاً لدى الفئات المذهبية المختلفة:
هل سيخدم هذا النظام الجديد مصالحي، وحقوقي، ويوفر لي ولأبنائي الأمن
والإستقرار؟ هذا السؤال مطروح لدى السنة والشيعة ويعبر عنه بصورة صريحة
في الخطابات السياسية للطرفين. وهنا يجب ان يؤكد الخطاب الجديد على
أن التوافق لا يعني غَلَبَة طرفٍ سياسيٍ على آخر، ولا ترجيحاً لمصلحة
فئة مذهبية او سياسية على أخرى؛ ولا تفريطاً بالحقوق الأساسية للمواطنين.
من المؤسف أن البعض اعتمد حدّة في الخطاب كلّما بَدَتْ تباشير حل
سياسي، من اجل تخريب الحل، والتحريض عليه وعلى من يقوم به، كما أن
حدّة العنف تصاعدت في الشارع لتحقيق ذات الغرض: تعطيل نجاح أي حوار
سياسي، وإبقاء الصراع مفتوحاً؛ وربما الإستفادة من ذلك على طاولة المفاوضات،
التي يكون فيها المفاوضون محاصرين بأكثر من مشكلة وقضية.
المطلوب من القيادات السياسية والدينية ـ إن كانت جادّة في إنجاح
الحوار الوطني والوصول الى المصالحة الوطنية ـ أن تضبط ردود أفعالها
بما لديها من تأثير وقدرات؛ ومطلوب منها أن تتوقف عن التصريحات العلنية
المتوترة والتي تستفزّ الآخر، كأداة ضغط في التفاوض، وأن لا تزيد بخطابها
هذا التوتر في ساحة ملتهبة أساساً.
لقد وقعت الكثير من القيادات السياسية ضحيّة الشارع نفسه، فهي بدأت
بإثارته وتحريكه، ثم تأثرت به فأطلقت العنان لنفسها بالحديث وهي ترى
الحشود، ولم تضبط نفسها وفق محددات العمل السياسي الوطني ومتطلباته
في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد.
على صعيد آخر، تتطلّب إعادة الثقة ـ من جانب الحكومة ـ إطلاق سراح
المعتقلين وبالأخص النساء والأطفال، ما يسهّل الحوار، ويوقف الشدّ
العصبي ودائرة الفعل ورد الفعل.
من حقنا ان نأمل حلاً يخرجنا وبلدنا من عنق الزجاجة، وأن يعيد اللحمة
للمجتمع، ويرسم صورة لبحرين المستقبل حرّة آمنة مطمئنة كما كانت.
|