البحرين: هل الديمقراطية التوافقية ممكنة؟
|
حسن موسى الشفيعي |
حسن موسى الشفيعي
لفت انتباهي موضوع نُشر مؤخراً في عدد من الصحف المحلية لمعهد البحرين
للتنمية السياسية حول (الديمقراطية التوافقية). وقد أوضح الموضوع بعضاً
من عناصرها، مع إشارة الى بعض عيوبها كما كل أنواع الديمقراطية الأخرى،
وخلص الى أن القبول بها (مسألة تخضع لقناعة مكونات المجتمع التي يجب
أن تتوافق على شكل الديمقراطية التي ترغب بها).
كلمتا (التوافق) والى حد ما (التوافقية) ترددتا خلال الأزمة التي
مرّت بها البحرين ولازالتا. ففكرة (التوافق) بين مكونات المجتمع (الشيعة
والسنّة بالذات) مع نظام الحكم، اعتبرت ـ لدى البعض على الأقل ـ مفتاحاً
لحل الأزمة، وليس مجرد (الحوار) بين المعارضة والحكم، فهذا وإن كان
مرغوباً ومطلوباً بشدّة، إلاّ أنه مجرد وسيلة للوصول الى ذلك التوافق
بالتحديد. أي أن المشكل السياسي في البحرين، خرج من إطار ثنائية (معارضة
وحكم) الى ثلاثية (سنّة، وشيعة، وحكم).
يفترض فيمن يدعو ويصرّ على التوافق وتوسعة دائرة صناعة القرار (الشراكة
السياسية) أن يكون له توصيفٌ للأزمة البحرينية مختلفاً عن توصيف المعارضة
له. إذا كانت المسألة تتعلق بأزمة بين مكوّنات المجتمع، وليس فقط بين
الشيعة/ المعارضة والحكم، فنحن نحتاج الى قراءة مختلفة للبيئة البحرينية
التي يراد تطبيق مفهوم (الديمقراطية التوافقية) فيها، خاصة وأن (التوافقية)
إنما صمّمت خصيصاً للمجتمعات المنقسمة أو غير المتجانسة مذهبياً أو
عرقياً أو لغوياً أو طائفياً، وليس بالضرورة المتحاربة فيما بينها،
وذلك بغرض الوصول الى الإستقرار السياسي.
نقصد بالمجتمع المنقسم ذلك المجتمع الذي لا يستطيع مكوّن من مكوّناته
تمثيل (الآخر المختلف والشريك الوطني). بمعنى أوضح، فيما يتعلق بالحالة
البحرينية، أن أي من مكوّني المجتمع البحريني غير قادر على إنشاء جميعية
سياسية حزبية تمثّل الطيف الوطني بعيداً عن الإنتماءات المذهبية أو
الطائفية، حتى ولو كانت دساتير تلك الجمعيات وأنظمتها الأساسية تبدو
نظرياً مفتوحة للجميع، لكن من الناحية العملية مغلقة لا ينتمي اليها
إلا فئات محددة منسجمة ثقافياً أو طائفياً، بسبب تشظي الثقافة السياسية.
والمجتمع المنقسم هو ذلك المجتمع الذي يعاني من تمزّق في نسيجه
الإجتماعي، لأسباب أثنية أو طائفية أو عرقية أو غيرها، ولا يُنتظر
أو لا يتوقع أن يتمّ علاج ذلك التمزّق في المدى القريب أو المنظور
بالأدوات المتوافرة حالياً. وفي بعض الأحيان يخشى من تفاقم التمزّق
الإجتماعي، بسبب الإنحلال السياسي، وتصادم النخب لمكونات المجتمع،
بما يهدد بالمزيد من عدم الإستقرار السياسي، وربما ـ كما في بعض الدول
ـ يصل الى الأمر الى الحرب الأهلية.
من هنا جاءت الديمقراطية التوافقية التي حققت نجاحاً باهراً في
كثير من الدول، وأدّى عدم الأخذ بها، أو التراجع عنها الى حروب أهلية
كما في لبنان (1975)، والى تقسيم كما في قبرص منذ 1975. السؤال هو:
الى أي حدّ يمكن للقوى السياسية في البحرين الأخذ بهذه الديمقراطية
التوافقية؟ وكيف يمكن تصميم بناء خاص من خلال أطرها للوضع البحريني
بما يراعي خصوصيته؟ والأهم: هل هناك رؤى أخرى أفضل من (التوافقية)
لمعالجة الوضع البحريني؟ والى أي حدّ هو خطير بقاء الوضع السياسي جامداً؟
وهل يمكن أن يؤدي الى انزلاقات مجتمعية وسياسية تزيد من عدم الإستقرار؟
أُريد من (التوافقية) أن تكون رابطة بين مواطنين متساوين وشركاء
(سياسياً) رغم اختلافاتهم الطائفية والمناطقية والعرقية واللغوية،
مع حفظ خصائص الجماعات الثقافية واستقلالها بهذا الشأن. ليجفارت Lijphart،
أحد أكبر منظري الديمقراطية التوافقية والداعين الى تطبيقها في المجتمعات
المتعددة، حدّد في كتابه (الديمقراطية في مجتمعات متعددة) إمكانية
قيامها في أربعة محاور:
1/ تحالف واسع بين القادة السياسيين (المنتخبين) لكل شرائح المجتمع
المتعدد.
2/ الفيتو المتبادل لمكونات المجتمع عبر ممثليهم المنتخبين، خاصة
في مجال السياسة المحورية للدولة، إضافة الى الحكم عبر (الإجماع) في
اتخاذ القرارات السياسية وذلك بغرض حماية مصالح الأقلية. إن من يمثل
الأكثرية داخل التحالف إن سعى للهيمنة فإنه يفتته، ومن يمثل الأقلية
فيه إن سعى لتغيير لعبة (النسبية) والضغط لتعديل (الإتفاق) يجرّ البلاد
الى الفوضى.
3/ نسبية التمثيل في مؤسسات الدولة وخدماتها.
4/ استقلال عال للجماعات في إدارة شؤونها الخاصة الثقافية وغيرها،
وقد تصل الى الفيدرالية في بعض الدول.
إذن الديمقراطية التوافقية لا تعتمد على حكم الأكثرية في البرلمان
لتشكيل الحكومة؛ ذلك أن حكم الأكثرية في مجتمع غير متجانس غير قادر
على مواجهة أزمة مجتمعية سياسية إن وقعت. الديمقراطية التوافقية تعتمد
على تحالف موسع بين أكبر الممثلين سياسياً لمكونات المجتمع من الذين
جاءت بهم الإنتخابات في تشكيل الحكومة وفي ضبط الإيقاع السياسي للدولة،
ومواجهة الأزمات التي تتعرض لها محلياً وخارجياً. هذا يعتمد على نخب
مكوّنات المجتمع وعياً وتمسكاً بالشراكة، وتعالياً على الإنقسام، وإدراكاً
بالمخاطر، واهتماماً ببناء ثقافة سياسية تقدّم مصلحة التحالف الموسّع
الحافظ لأسس الدولة، والقادر على هضم أية أحزاب أصغر تتطلع للمشاركة
فيه وتنجح في تحصيل تمثيل معقول في البرلمان من خلال الإنتخابات. لا
يكفي أن يكون القادة السياسيون معتدلين يميلون الى حل مشاكلهم عبر
التنازلات المتبادلة، بل من الضروري أن ينعكس ذلك على سلوك الجمهور
الذي يتبعهم من الفئات المختلفة.
ليست هناك عناصر اضافية كمشكلة الجغرافيا لتصعّب تطبيق الديمقراطية
التوافقية في البحرين، بما يتطلب فيدرالية أو حكماً ذاتياً أو نوعاً
من المركزية؛ ولكن هناك عنصراً لا يوجد في العديد من الديمقراطيات
التوافقية المنتشرة في أوروبا وغيرها، ويتعلق بدور العائلة المالكة.
يمكن ان تكون هناك ديمقراطية توافقية مع وجود ملكيّة دستورية. ولكن
الملكية في البحرين حاكمة، وليست مالكة فحسب، ووجودها في الحكم ضرورة
لإنجاح التوافق، إذ يفترض بها أن تكون طرفاً ثالثاً شريكاً مستقلاً
متعالياً على المكوّنات وغير منخرط في الصراعات، بل ناظماً وموازناً
للعملية الديمقراطية، وبذا يمكن تقديم ضمانات أعلى لانجاح التوافق
المجتمعي والتوافقية السياسية.
في قراءته لتجارب الديمقراطية التوافقية، رأى ليجفارت أن هناك عوامل
مساعدة على إنجاحها، وهي في كثير منها ينطبق على الوضع البحريني، مثل:
أن تكون البلد صغيرة الحجم نسبياً تسهل عملية التواصل المجتمعي؛ وأنه
كلما كان عدد السكان صغيراً نسبياً كلما ساعد ذلك في نجاح التوافقية
(بلجيكا، هولندا، سويسرا، لبنان، النمسا)؛ وأن لا يكون هناك تمايز
لغوي بين مكونات المجتمع؛ وأن يكون حجم التنوّع قليلاً أي أن لا تكون
هناك جماعات عديدة تصعّب عملية التوافق بينها. ويرى ليجفارت أن تساوي
أحجام الجماعات من حيث العدد يسهل عملية التوافق، وأن وجود أكثرية
واضحة قد يجعلها تفضل حكم الأكثرية بدلاً من نموذج الشراكة السياسية
(قبرص). كذلك فإن وجود خطر خارجي، يساعد على توحيد الجماعات ويسهل
عملية التوافق؛ كما أن وجود روح وطنية قوية أو دين جامع يساهم في إنجاح
الديمقراطية التوافقية، وهكذا.
هذه مجرد ملامح للخطوط العامة للديمقراطية التوافقية التي تحمل
عيوباً كثيرة وقد لا تنجح كما هي ديمقراطية الأكثرية البرلمانية والرئاسية.
لقد قيل وهو صحيح أن الديمقراطية في بلد متعدد أمر صعب؛ ولكن يبدو
أن التوافقية في بلد متعدد قد يكون أمراً أكثر صعوبة، فحكم الأكثرية
قد يهمش ما يقارب من نصف السكان؛ والحكم التوافقي قد يؤدي الى ترسيخ
الحدود بين الجماعات بدلاً من تكسيرها، كما أنه قد يختطف أصوات الناخبين
للتفاوض وراء أبواب مغلقة بين النخب. ويبقى أحياناً القول بأن الديمقراطية
التوافقية قابلة للتبيئة، أي يمكن لأي دولة أن تستفيد من الخطوط العامة
والرؤى الجوهرية فيها، لتصمم لنفسها نظاماً ديمقراطياً توافقياً لا
يعيدها الى الديكتاتورية، ولا يغامر بمستقبل أبنائها في طريق المجهول.
قد تبدو أكثر شرائط تطبيق الديمقراطية التوافقية متوافرة، ولكن
الحالة البحرينية بحاجة الى تمحيص أكثر، والى نقاش مجتمعي وبين الجمعيات
السياسية وممثلي المكونات المجتمعية بالإضافة الى العائلة المالكة.
فالتوافق السياسي، يعني في جانب منه تغيير نسق النقاش السياسي الدائر
حالياً، بل قد يؤدي الى تقليص أهمية الكثير من الموضوعات المطروحة
في حال اتجهت الأنظار الى الأسئلة المفصلية الأساسية: هل يراد بناء
ديمقراطية بحرينية وكيف؟ ما نوع هذه الديمقراطية المطلوبة؟ وكيف نبدأ
الخطوات الفعلية لتطبيقها؟
|