حسن موسى الشفيعي

البحرين: ضرورة العبور نحو (الثقة السياسية)

حسن موسى الشفيعي

انكسار الثقة بين الأطراف السياسية ومكونات المجتمع البحريني، تبدو اليوم ظاهرة واضحة، وهي من العمق والخطورة بمكان، ما يجعلها تجربة مريرة لم تصل الى مثلها البلاد في تاريخها الحديث رغم وجود تجارب سابقة كما في التسعينيات الميلادية الماضية.

أنّى اتجهت ستجد عدم رضا متبادل بين الأطراف السياسية المختلفة؛ لا تكاد ترى أحداً راضياً عن مواقف الطرف الآخر؛ بل والأخطر أن عدداً من السياسيين بدأوا يتحدثون عن عدم قدرتهم على التعاون مع هذا التوجه السياسي أو ذاك، ما يكشف عن حالة من الإنسداد، قد تقود في مراحل لاحقة الى عملية إلغاء كاملة، وقطيعة شاملة، تتعدّى الأبعاد السياسية الى المجتمع نفسه المتشظّي والمنقسم اليوم على ذاته. عدم الثقة المزدوج هذا، تحدث عنه السياسيون والصحافيون والمراقبون، بمن فيهم د. بسيوني نفسه في العديد من مقابلاته الصحافية الأخيرة، حيث رأى ضرورة اعتماد الأساليب العلميّة في التغلّب عليها.

نحن في البحرين أمام مشكلتين متداخلتين: فمن جهة هناك توسّع في فجوة عدم الثقة السياسية بين النظام السياسي والمعارضة التي تمثل طيفاً اجتماعياً وازناً؛ ويوجد مثل تلك الفجوة بين اللاعبين السياسيين أنفسهم من أحزاب وتجمعات. وهناك من جهة أخرى عدم ثقة بين أفراد المجتمع أنفسهم.

(عدم الثقة السياسية) يعني بالتحديد: غياب التوافق بين أفراد المجتمع حول الخطوط العامّة للحياة السياسية والإجتماعية؛ وحول القيم الضابطة؛ وحول الأولويات السياسية؛ وحول سُبل وإمكانية التعايش. بمعنى آخر: إن (عدم الثقة السياسية) يلامس القضايا الأساسية، كشكل نظام الحكم؛ وتركيبة المؤسسات السياسية والإجتماعية، وما يتعلق بها من طموحات وتوقعات للمواطنين، بما ينعكس على مقدار التفاعل بين المجتمع وبين النظام السياسي في مجال المشاركة في بنائه ودعمه أو العكس.

و(عدم الثقة الإجتماعية) يرتبط بعلاقة مكونات المجتمع بعضهم ببعض، ومدى تفاعلهم واندماجهم وتعاونهم المشترك في سبيل تحقيق غايات مشتركة، تعزز الإستقرار الإجتماعي في علاقة صافية لا يكدرها القلق والشك والريبة من الآخر.

بهذين المعنيين يمكننا القول بوجود جدار سميك مزدوج من عدم الثقة.

ولكن من الناحية العملية، فإن عدم الثقة السياسية التي تمدّدت في بناء جدران أخرى فأضعفت الثقة الإجتماعية، ما هي إلا نتيجة لمشاكل وقضايا متراكمة منذ سنوات طويلة. بمعنى أن عدم الثقة له أسبابه، وجذوره، كما له تجليّاته ومظاهره وتفاعلاته بحيث قد يولّد مشاكل أخرى، أو يعمّق من مشاكل قائمة.

العودة الى الجذور تقتضي البحث في مسببات عدم (الثقة السياسية). فقد مرّت البحرين بأحداث مفصلية كثيرة، وكان مؤشر عدم الثقة يرتفع وينخفض حسب المعطيات السياسية، لكن المؤشر هذه المرّة وصل الى الحضيض. في التسيعينيات الميلادية الماضية كان هناك عدم ثقة سياسي، انعكس على الإستقرار الأمني، ولكن الملك استطاع أن يرتفع بالمؤشر الى أقصى علوّ ممكن له، حين قام بالخطوات الإصلاحية المعروفة. كانت الثقة السياسية بين الشارع والسلطة في أفضل حالاتها، وكان الإلتزام بالقانون أحد أهم مؤشراتها؛ وكان المجتمع في مجمله قد بنى آمالاً وتوقعات بسبب تلك الثقة، وبسبب الوعود والآمال بتحسين الأوضاع بشكل عام، وهو ما حدث بالفعل في عدد غير قليل من المجالات.

لكن مؤشر الثقة ذاك انخفض بقدر ما بسبب مسألة الدستور، ما أدّى الى عدم المشاركة في الإنتخابات النيابية في 2002، ثم ارتفع مؤشر الثقة بالوضع وبالنظام السياسي بقدر جيد في 2006 حين شاركت المعارضة في العملية السياسية، ولكن المؤشر أخذ بالهبوط التدريجي في السنوات التالية حتى كان الإنفجار في فبراير الماضي، ما أدّى الى ما يشبه الطلاق السياسي، وخروج المعارضة من البرلمان، مع مطالبات من بعض القوى بإسقاط النظام كليّة، الأمر الذي انعكس هو الآخر على الثقة بين مكونات المجتمع حتى وصلنا الى وضعنا الحالي.

وقد التقط الملك مرّة أخرى الحبل، وحاول البداية لإعادة بناء الثقة من خلال تشكيل اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، على أمل أن يؤدي تطبيق توصيات تقريرها الى ذلك.

الثقة السياسية لا تُمنح اعتباطاً ولا تسحب اعتباطاً. فهي مرتبطة بطبيعة العلاقة بين النظام السياسي والمواطنين. هي مرتبطة بشكل مباشر بأداء السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وما إذا كانت هذه السلطات قد لبّت توقعات المواطنين من جهة؛ والتزمت بتنفيذ وعودها؛ فهذا ما يجعل الثقة قوية أو العكس.

إن تآكل الثقة السياسية يؤدي الى نتائج خطيرة، وفي مقدمتها:

1 ـ عدم الإلتزام بالقانون؛ فإذا رأيت تجاوزاً ولا مبالاة بالقانون ونفوراً جمعياً منه، فهذا مؤشر عدم ثقة. ذلك أن طاعة القانون مرتبطة في روحها باحترام النظام السياسي، والثقة بأنه نظام صالح وقادر على تلبية مطالب المواطنين والتعبير عن مشاعرهم وتطلعاتهم. لقد لاحظنا أن خرق القانون كان ضئيلاً في بداية الألفية الثانية، ثم رأينا تصاعداً في التوتر والشغب، بل رأينا أحزاباً سياسية تتشكّل ولا تريد أن تسجّل نفسها قانونياً، بل وتمارس نشاطها وكأنها غير معنية بوجود القانون أصلاً.

2 ـ عدم الإهتمام بالمشاركة في العملية السياسية، وضعف المشاركة الإنتخابية، بل وضعف العمل الخيري التطوّعي، وضعف أداء منظمات المجتمع المدني نفسها. كل هذا رأينا مثله في البحرين. هناك عدم تقدير كاف للإصلاحات الحكومية السياسية، ولأداء بعض الأجهزة الحكومية التي أنجز بعضها ـ على الأقل ـ الشيء الكثير. وفي جانب آخر، رأينا الإنسحاب من البرلمان، وكذلك الإستقالات في عدد من مؤسسات الدولة، ما يعني انسحاباً من العملية السياسية، واختلالاً في ميزان الثقة. الزهد في العملية السياسية يعود الى عدم الثقة في أن البرلمان قادر على تلبية تطلعات المواطنين أو جزء منهم على الأقل. إن السلوك السياسي من قبل بعض القوى المعارضة، ومن المواطنين العاديين (سلباً أو إيجاباً) مرتبط في جوهره بتوافر (الثقة السياسية) قوة أو ضعفاً.

3 ـ الفوضى السياسية، والتي يمكن أن تحسب كسبب لعدم الثقة، ولكنها في الوقت نفسه قد تكون منتجاً لها. ونقصد بالفوضى تحديداً: الصراع السياسي بين المشاركين في العملية السياسية، وعدم الثقة في بعضهم بعضا، ما يؤدي الى شلّ عمل المؤسسات، وفي مقدمتها البرلمان، وهذا بدوره يؤثر سلباً على عمل الحكومة وعطاءها، خاصة إذا ما ترافق مع ضعف للمؤسسة التشريعية مقابل السلطة التنفيذية، بحيث يصبح البرلمان ـ ومن الناحية العملية ـ غير ممثل لتطلعات الناخبين، ويصبح البرلمانيون المنتخبون غير قادرين على التجاوب مع تطلعات ومطالب ناخبيهم، فينعكس أثر كل ذلك على النظام السياسي، وعلى ثقة الجمهور به وبقدراته في تعديل المسار.

4 ـ انتشار حالة عامّة من السخط، سواء تجاه السياسات أو المؤسسات الحكومية، وأيضاً تجاه الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية، وغيرها. ذلك أن حالة الرضا الشعبية تعكس بالضرورة جانب الثقة السياسية، وجانب الأمل والتطلّع الى الأفضل، والرضا يعني أن توقعات المواطنين قد تمّ تلبيتها أو هي في الطريق تجاه ذلك. يمكننا اليوم أن نجد بين الموالاة كما بين المعارضة، عدم ثقة كبير في عدد من المؤسسات الحكومية، كالإعلام الرسمي، والصحافة، والقضاء، وموظفي الخدمة المدنية، ووزارات الخدمة العامة كالتعليم والصحة والسكن والبلديات والعمل، والجمعيات الأهلية الحقوقية وغير الحقوقية، وكذلك النقابات واتحاد العمال، وغيرها. الجميع يشكو، والجميع يحمّل طرفاً أو أطرافاً أخرى المسؤولية، وهذا يعكس انسداداً سياسياً، ويبرهن حقيقة أن أهم طرق بناء الثقة بين النظام السياسي والشعب يعتمد على نجاحه في تلبية احتياجات ومطالب وتطلعات مواطنيه. فالأداء غير الفاعل يساهم بالضرورة وبشكل كبير في إضعاف الثقة.

5 ـ تصاعد النزعة الإستئثارية ونفي الآخر؛ فعدم الثقة بشخص أو بجهة أو بجهاز أو بمسؤول أو فئة، يتطوّر معه شعور بأن من الضروري عدم إشراكه في القرار، أو إقصاؤه منه، واعتباره غير موجود، ولا يستحق أن يكون شريكاً. وهنا أيضاً يتعزّز شعور آخر، عماده المغالاة في القدرة الذاتية التي تستطيع أن تقود السفينة مفرداً، حتى وإن بدون ركّاب. وهذا الشعور موجود اليوم بين القوى السياسية كافة، وفي بعض الأحيان له تطبيقات على الأرض لا تخفى على المراقب. وغياب الثقة يغيّب معه روح التسامح حتى على الصعيد الإجتماعي، وفي نظرة الفئات الاجتماعية الى بعضها البعض، حيث تعلو لغة التخوين والتكفير والإستئصال، في حين أن الثقة عادة ما يأتي معها التواد والزيارات، والزواج المختلط، والتعاون في العمل الخيري، والتنسيق في الجهود والمواقف، ويصبح الناس أكثر قبولاً بالتنوع والإختلاف المذهبي أو الطائفي أو السياسي، وأبعد ما يكونوا عن التنميط ونظريات التآمر.

كيف نبني الثقة؟

قلنا في البداية بأن لدينا عدم ثقة مزدوج في المجالين السياسي والإجتماعي. هناك دور تتحمّل الدولة مسؤوليته، إذ لا يستطيع أحدٌ أن يأخذ مقعدها، ويقوم بدورها. ولكن هناك أدواراً أخرى مناطة بالمجتمع وقواه الدينية والسياسية والعلمية وغيرها. وفي المجمل هناك عدّة مقترحات:

1/ إعادة الإعتبار لمؤسسات الدولة باعتبارها مؤسسات نفع عام، وليست خاصةً بفئة أو جماعة، ولا يجب أن تكون. ولا يمكن إعادة الإعتبار لها بدون تغيير حقيقي في أدائها، بما ينعكس على عطائها ونجاحها في حلّ مشاكل المواطنين كافة.

2/ يجب التوصّل الى حلول سياسية توافقية بين كافة القوى السياسية، بما يضمن إعادة الإعتبار والمكانة للبرلمان مصحوباً بالتعاون بين البرلمانيين وبحرص على الوحدة الوطنية والإندماج الإجتماعي والسلم الأهلي.

3/ إعادة الإعتبار للمؤسسات الدستورية، وتأكيد الثوابت الوطنية المشتركة، بما يحدّد الخطوط الحمر للتوجهات والأهداف السياسية، وبما ينعكس على الخطاب السياسي المؤلّف والموحّد.

4/ تعزيز استقلالية القضاء باعتباره وجه العدالة الناصع، والملاذ الآمن للمواطنين، والعضد المدافع عن حقوقهم، والحامي للمصالح العامّة، وأهداف المجتمع الكبرى.

5/ تشجيع كل المبادرات الرسمية والأهلية التي تقود عملية بناء الثقة بين أفراد المجتمع ومكوناته. وكذلك بناء الثقة بالنظام السياسي وتعزيز روابطه بالجمهور. ومن هذا المنطلق نحن شجّعنا ودعونا ـ في مرصد البحرين لحقوق الإنسان ـ المعارضة كي تساهم في تضميد الجراح، وتهدئة الشارع، وزرع الثقة من خلال المشاركة في إنجاح تطبيق توصيات تقرير اللجنة البحرينية المستقلّة لتقصّي الحقائق، وفي مقدمتها تفعيل صندوق تعويض المتضررين. ويدخل ضمن هذا، تشجيع كل مبادرة تأتي من مكون اجتماعي تدعو للوحدة، وتقدّم البرامج المشتركة التي تقود الى التفاهم والتعاضد وتضييق شقّة الإختلاف وتوسعة هامش المشتركات بين المواطنين.

6/ من الضروري أيضاً في عملية بناء الثقة، التوقّف عن التعرّض للممتلكات العامّة بالضرر، والإضرار بمصالح المواطنين، وكذلك العودة الى الخطاب الوطني الوحدوي الجامع، خاصة في الصحافة المحليّة، والتوقّف عن المماحكات السياسية والتعرّض للمختلف خارج إطار النقد البنّاء.

7/ اعتماد مبدأ الشفافية بين القيادة السياسية والجمهور، من خلال زيادة التواصل المباشر عبر الخطابات الموجهة، وعبر الزيارات للمناطق المختلفة، وعبر استقبال الوفود وحضور المناسبات الإجتماعية. إن واحدة من أهم القضايا التي سببت عدم الثقة هو انقطاع الصلة والحوار بين القوى السياسية والإجتماعية، فصار الجميع يعيش فيما يشبه الغيتوهات ما يفتح مجالاً أكبر للشك والريبة وسوء الظن والتفسيرات غير المنطقية. أيضاً فإن القيادات السياسية ورؤساء التجمعات مطالبون أيضاً بالإنفتاح على نظرائهم المختلفين، وزيارتهم، وفسح المجال لكل طرف بأن يتحدث الى جمهور الطرف الآخر، أو الى نخبة الطرف الآخر على الأقل. فالإنغلاق على الذات يحجب الحقيقة، ويضخّم المخاوف، ويعزّز الصورة النمطية عن الآخر، ولا علاج لهذا إلا بالإنفتاح الإجتماعي والسياسي.

8/ بثّ روح الأمل بين المواطنين، بأنّ مستقبلاً واعداً ينتظرهم. مستقبل تجلّله الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية والمساواة في دولة يحكمها القانون، ويسودها الإحترام المتبادل، ويلقى فيها المواطن الرعاية التي يستحقها والتي يفترض أن تتوفر له من قبل مؤسسات الدولة وأجهزتها. لا يجب أن يبقى مواطنونا أسراء اليأس، ويستبدّ بهم السخط، ولكن أيضاً لا يجب أن نعطي وعوداً في الهواء، مع ضرورة التحلّي بالأمل وزرعه في النفوس، حتى يكون قادراً على امتصاص فائض عدم الثقة، وعلى إطلاق سراح المواطنين من أسر الهواجس الى البحث والعمل من أجل تحقيق أحلامهم وآمالهم.