الأزمة السياسية في البحرين.. ومستلزمات الحوار

حسن موسى الشفيعي

حسن موسى الشفيعي

ضمن دوافع اخرى عديدة، فإن خروج المواطنين للتظاهر في الشارع البحريني كان تعبيراً عن الحاجة الى التغيير. فرغم الإصلاحات السياسية التي بدأت مع مطلع 2001، إلا أنها لم تلبّ كل مطالب المواطنين وتشبع كامل رغباتهم، كما أن الخطوات الأولى للإصلاح ولّدت وحفّزت من جانب آخر الطبيعة البشرية للمطالبة بالمزيد من الإصلاحات، وهو أمرٌ نشهد نماذج له في بلدان أخرى، بدأت بإصلاحات محدودة ثم تطورت مع تطور رغبات المجتمع وحاجاته وتطلعاته. وبالتالي فإنه من الصعب وضع سقف للإصلاحات، أو منع المواطنين من التطلّع الى ما هو أبعد مما لديهم.

بيد أن التعبير عن الحاجة الى المزيد من الإصلاحات في البحرين، اصطدم بادئ ذي بدء بالخشية والقلق من بعض أطياف السلطة، وبعنف وشغب في الشارع، فأخذت عجلة الإصلاحات تفقد بعض بريقها، وتتباطأ بشكل تدرجي، بحيث أنها لم تكن متساوقة مع تعاظم الرغبة الشعبية في تحقيق المزيد من الحريات والإصلاحات.

وحين انفجرت الثورات العربية، كان من البديهي ان تكون البحرين من بين الدول الأولى المتأثرة بها. وفي نظرنا فإن شعوب الدول التي بها عملية اصلاح قائمة أو مساحة من حرية التعبير، تكون ـ في الأعم ـ أكثر استجابة وقدرة على الحركة في التعبير عن مكنوناتها وتطلعاتها من تلك التي تقع تحت نير الديكتاتورية المطلقة. هذا ما يمكن فهمه مما حدث في مصر والمغرب واليمن والعراق وكذلك الأردن والبحرين.

في الملكيات الأربع: المغرب، والأردن، والبحرين، وسلطنة عمان، كان سياق تأثير الثورات العربية إصلاحياً، أو هكذا يفترض. إذ من المتوقع أن تأخذ التحركات والتحولات السياسية طابع (الإصلاح) لا (التغيير الشامل/ الثورة)، وكان يفترض في البحرين بالذات أن يحدث فيها ما حدث في المغرب: أن يتظاهر المواطنون ويتقدموا بمطالب إصلاحية سياسية، فتستجيب لها السلطات أو لبعضها، وبذا يكون تحرّك الشارع فاعلاً في إعادة الزخم لمشروع الإصلاحات، وفي الإنتقال بالنظام السياسي والمجتمع برمته الى حالة أخرى متطورة بصورة سلمية ديمقراطية حضارية.

كان هذا هو المتوقع أو المؤمّل. لكن ما حدث شيء آخر، كما نعلم. ففي البداية واجهت السلطات المتظاهرين بقسوة اعتذرت عنها ووعدت بالتحقيق فيها، وسقط عدد من الضحايا، تبعه تشدد من القوى السياسية المعارضة صاحبه بعض العنف والتخريب. وفي ظل هذا الوضع، فشلت نداءات الحوار التي دعا اليها ولي العهد، فيما أخذ طرف آخر من المعارضة بعضاً من الجمهور الى حيث (اسقاط النظام) وتغيير مملكة البحرين الى جمهورية عبر العصيان المدني، انتهى الى ما انتهى اليه من صدامات وتدخل قوة درع الجزيرة، وفرض حالة الطوارئ، وقد هدأت الأوضاع وعادت الروح الى الحياة العامة، رغم بقاء أسباب الأزمة وبعضاً من التوتر.

لقد حاولت بعض أطراف السلطة كسر الشارع بالقوة بادئ الأمر ففشلت، وسعى ولي العهد لاحتواء مطالب الشعب عبر دعوات الحوار؛ لكن القوى المعارضة ردّت خطأً بمحاولة كسر إرادة السلطة عبر الشارع وفرض مطالبها التي اعتبرها البعض تعجيزية؛ وحين سيطرت القوات الأمنية على الشوارع، عادت الحلقة من جديد من أجل فرض إرادة السلطة (الدولة) على المعارضة مرة أخرى.

إن كان لنا أن نستنتج، فإنه يمكن القول بأن الطرفين الحكومي والمعارض الذي مثلته الوفاق وحليفاتها من الجمعيات السياسية الأخرى، قد فشلا في إدارة الأزمة، وكانت الخسارة كبيرة لأطراف الإعتدال في السلطة كما في المعارضة، بل أن الخسارة الأكبر تكمن في الإنشقاق الحادّ في النسيج الإجتماعي على أسس طائفية، انساقت معها أطراف مختلفة.

في ظلّ الواقع اليوم، ومن خلال التجربة، يمكن القول بأن هناك حاجة ماسّة الى العودة الى المربع الأول من جديد، بقدر ما يكون ذلك ممكناً وبالسرعة الممكنة، أي الى التفاهم والحوار بين المعارضة والسلطة من أجل النهوض معاً بمشروع الإصلاحات الجديدة، التي يفترض أن تلبي القدر الأوفى من حاجات المجتمع وحاجات الدولة، واعادة الإستقرار. ولتحقيق ذلك، علينا الإلتفات الى التالي:

أولاً ـ لا يمكن للحل الأمني أن ينجح في إلغاء الرغبة في تطوير النظام السياسي عبر المزيد من الاصلاحات الجادّة والحقيقية. لقد اثبتت السلطة أنها قادرة على فرض الأمن في الشارع من وجهة نظرها، ولكن هذا الأمن عمره قصير، ويمكن أن ينفجر الوضع مرّة أخرى، ما لم يصار الى حلول سياسية تنزع بؤرة التوتر. ان امتلاك القلوب أهم بكثير من السيطرة على الشوارع والساحات العامّة.

ثانياً ـ من الصعب إنجاح حوار تحت الضغط الأمني على المعارضة المعتدلة. وهذا لو تمّ فإنه سيضعفها ويفسح الطريق لظهور معارضة جديدة متشددة. ومن الصعب أيضاً إنجاح الحوار بضغط الشارع على الحكومة، وإملاء الشروط، إذ ثبت أن الحكومة لا تقبل بذلك، ولا تقبل بأن يراق ماء وجهها كما المعارضة. إن فرض شروط مسبقة على الحكومة غير ممكن ولا يعطي معنى للحوار.

ثالثاً ـ لقد انساقت المعارضة مع الشارع، ورفع المعتدلون منها سقف خطابهم السياسي مقابل الجناح الأكثر راديكالية والمطالب بإسقاط النظام وإقامة الجمهورية. وبدل أن تكون المعارضة هي القائد للجمهور، اصبحت الخشية منه ومن ردود أفعاله معوّقاً للحوار، خاصة وأن جماهير عديدة تأثرت بمشهد الأحداث، وانطوت على نفسها او رأت مقاطعة الحوار، حتى وإن كان ذلك في غير صالحها. المطلوب ترشيد الشارع، وتخفيف احتقانه، ومخاطبة عقله لا عواطفه، حتى يمكن تجاوز المرحلة المؤلمة الحالية.

رابعاً ـ لا تحتاج البحرين ـ معارضة وحكومة ـ الى وسطاء لتسهيل عملية الحوار بين الأطراف السياسية المختلفة وتجسير وجهات النظر المتباعدة، بقدر ما تحتاج الى بناء الثقة بين اللاعبين السياسيين، والى رعاية محلية لما ينتج عنه الحوار. وما يدفع بهذا الإتجاه، أن بعض الثوابت قد جرى خرقها، وفي مقدمة ذلك دعوة بعض الأطراف الى إسقاط النظام والعائلة المالكة التي جرى على تحديد دورها ومكانتها استفتاءان: استفتاء 1971 قبيل الإستقلال؛ والآخر استفتاء 2001 على ميثاق العمل الوطني. وكلا الإستفتاءين أكدا بنسبة عالية على الحفاظ على مكانة العائلة المالكة في الحكم. وفي الطرف الآخر الشعبي، حدث خرقٌ مؤثر، تمثل في الخشونة في مواجهة الجمهور، ما أدّى الى سقوط العديد من الضحايا في الأيام الأولى للتظاهرات.

خامساً ـ لانجاح الحوار، هناك حاجة ماسة الى استعادة مبدأ (التسامح). فالحوار بحاجة الى مناخ مناسب غير متشنّج. والحوار بحاجة الى ظرف سياسي ينطوي على بصيص أمل واستعادة للحياة. بصريح العبارة: كل الأطراف الحكومية والمعارضة ارتكبت أخطاءً سياسية، وحدثت تعديات على حقوق الإنسان البحريني، وإن تطبيق القانون سيكون معوجاً إن جرى على جهة دون أخرى. نعم هناك حاجة لتثبيت الأمن والإستقرار باعتدال، أما متابعة المحاسبة في كل شأن فمن شأنه أن يراكم الألم في النفوس المشحونة. ومن الأمثلة التي تضرب في هذا المجال فصل الطلبة المبتعثين، وعدد غير قليل من الموظفين، وسجن بعض المعترضين لمشاركتهم في التظاهرات. في أوقات الفتنة، فإن مثل هذه الإجراءات تعقّد الأمور، مثلما جرت بعض المساجلات المؤلمة في تلفزيون البحرين. فإذا كان الغرض استعادة أوضاعنا وحياتنا، فإن القانون في إطاره العام ضروري مثلما هو التسامح. وإلا فإن المحاسبة الدقيقة تضيق فرص النجاح لإقامة حوار يفتح فصلاً جديداً في تاريخ البلاد ويغلق فصلاً مؤلماً آخر.

سادساً ـ يفترض في الحوار أن يضع حدّاً نهائياً لأزمة لا يحلّها القانون وحده، بل يحلّها في الأساس التوافق السياسي بحماية القانون ودعمه، ومن ورائه الشعب. لقد قيل بأن الحوار يجب أن يشمل جميع الأطياف السياسية في المجتمع، وهذا صحيح، وهو ما أكد عليه ولي عهد البحرين وآخرون. وهنا ينبغي الفات النظر الى أن التوافق يعني أيضاً أولئك المتشددين الذين ذهبوا بشعاراتهم بعيداً. لا يراد لنا أن نستعيد ذات المشكلة القديمة: قسم مع العملية السياسية؛ وقسم معارض لها بشدّة يعيد توتير الأوضاع. وليس هناك من حلّ سوى أمرين: الأول ـ أن ينجح المتحاورون ـ حكومة ومعارضة ـ في اقناع الجناح المتشدد بالمشاركة في العملية السياسية التي يفترض فيها أن تكون مغرية وتتضمن اصلاحات سريعة. والثاني ـ أن يتمّ عزل المتشددين بحزم وفق القانون وبإجماع كل القوى السياسية ودعمها، ولكن الأهم من خلال عملية سياسية ناجحة غير متباطئة. ذلك أن التشدد سبق وأن كسب أرضاً على حساب الإعتدال بسبب تباطؤ الإصلاح السياسي، وتأخر تحقيق بعض المنجزات الخدمية، ولا نظن بأن من الصالح أن نكرر ذلك.

سابعاً وأخيراً ـ إن المناخ الطائفي يضغط على كل الأطراف بعدم التحاور والإلتقاء، أو بعدم تقديم تنازلات. لقد حدث شرخ طائفي عميق في المجتمع البحريني. من السهل استثارة المشاعر الطائفية واستخدامها سياسياً، لكن الأضرار الناتجة عن ذلك كبيرة وعميقة وتحتاج ربما الى سنوات لإعادة اللحمة الوطنية الى وضعها الطبيعي. المتحاورون مطالبون بوضع خطوات ملموسة وعلمية لتحقيق الإندماج الوطني على صعده السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية. ولكن قبل ذلك، والى أن يتم الحوار، هناك ماكينات طائفية لاتزال تقوم عبر الإعلام بدور تخريبي هائل، وقد آن الأوان لإخماد صوتها ان كانت داخلية، والتحذير منها إن كانت خارجية، وذلك لخلق متنفس للنقاش والمصالحة السياسية.

وبعد، فإن البحرين بلد تعددي، وأزمتها السياسية قابلة للحلّ كما في كل البلدان الأخرى. وأساس الحلّ يصنعه الأطراف الثلاثة: العائلة المالكة، والشيعة، والسنّة، وفق نظام ملكي دستوري توافقي. لا أحد يستطيع اختزال الآخر، أو الإستفراد بالسلطة، أو العودة بالبلاد الى وضعها القديم، فذلك زمن مضى، وقد عصفت بالبلاد تحولات سياسية إصلاحية منذ مطلع الألفية يصعب التراجع عنها والتنكّر لها.