حسن موسى الشفيعي

البحرين: حرية التعبير

بين النقد والتحريض

حسن موسى الشفيعي

البحرين ـ الى جنب الكويت ـ تأتي في مقدمة دول الخليج في مجال التمتع بهامش واسع من حريّة التعبير. وتعتبر كلا الدولتين الأكثر تطوراً في الممارسة الديمقراطية التي تمثل الوعاء لكل النشاطات المتعلقة بالحريات المدنية والسياسية.

وفي حين نسمع نقداً لاذعاً داخل البحرين وخارجها ضد ممارسات تصنّف في خانة انتهاك حرية التعبير؛ فإن هناك دولاً خليجية أخرى لا تتمتع إلا بمستوى متدنّ منها؛ وتعاني المنظمات الدولية من شحّة المعلومات المتوفرة أو المتسربة من تلك الدول حول الإنتهاكات المستمرة لحرية التعبير.

النقد الموجّه للبحرين في موضوع حرية التعبير، مرتبط في أهم جوانبه بعدم اعتماد قانون عصري للصحافة والنشر، وقد تأخرت الحكومة والجهاز التشريعي في إقرار قانون جديد حتى الآن. وهناك نقد للبحرين جاء على خلفية مشوّهة من المعلومات، تظهرها وكأنها تمنع النقد حتى العادي منه، أو تصورها كدولة تكمم الأفواه، وتعترض حرية الصحافيين وما أشبه.

إضافة الى التقييم غير الدقيق، واعتماد معطيات غير صحيحة أو مبالغ فيها أحياناً، فإن حرية التعبير في البحرين تعاني من اختلاط وتشويه في المفاهيم، وخاصة التشابك بين ممارسة النقد وبين التحشيد للشارع أو تحريضه للقيام بأعمال غير قانونية.

ممارسة النقد قضية أساسية في صلب التحول السياسي والإصلاحات التي تمّ اعتمادها مطلع الألفية الجديدة؛ وكان على المسؤولين أن يتحمّلوا النقد، حتى الحادّ الصارخ منه، وهو أمرٌ لم يكن مألوفاً. ومنذ تلك الإصلاحات، لم تعد هنالك مشكلة في نقد شخص مسؤول، أو أداء وزارة، أو التعرّض لدائرة أو جهاز تنفيذي. وصار بإمكان المواطنين التظاهر في الشوارع العامة، والإعتصام أمام وزارات ومؤسسات الدولة احتجاجاً على أمر ما، وهو ما تشهده البحرين دائماً. إن كل العاملين في الشأن العام معرضون للنقد في الصحافة والمجالس العامة وعلى شبكة الإنترنت، ومثل هذا النقد والإحتجاج محبّذ، وتحكمه ضوابط وقوانين، كما أنه ضروري في أي مجتمع يتدرج نحو الديمقراطية، ويسعى لممارسة دور رقابي على أداء السلطة التنفيذية، وإفهامها بأنه حاضر في الساحة.

لذا فإن منع النقد والإعتراض العلني وقمع المنتقدين (غير ممكن) في البحرين، وهو مخالف للدستور. وهذا الحقّ في ممارسة حرية التعبير والنقد غير قابل للتفريط به من قبل الجمهور الذي مارسه طيلة السنوات العشر الماضية. ويكفي لإثبات ذلك مطالعة الصحافة المحلية وما تتضمنه من نشاطات شعبية، وانتقادات لمسؤولي الحكومة.

في جانب آخر، هناك التحشيد والتعبئة الجماهيرية في العمل السياسي، والذي تقوم به الجمعيات السياسية في البحرين، من خلال الندوات، والمظاهرات، والإعتصامات، والإصدارات الصحافية والنشرات، والمؤتمرات الصحافية وغيرها. هذا التحشيد ليس مقبولاً فحسب، بل يجب احترامه وتمكين ممارسته، لأنه:

ـ نشاطٌ يأتي ضمن الأطر الحزبية السياسية المعترف بها رسمياً.

ـ وهو نشاطٌ يجري وفق القانون، ولا يخترق سقف ميثاق العمل الوطني، والذي مثّل الإجماع الشعبي عبر التصويت عليه في استفتاء عام.

ـ وهو عملٌ يستهدف المشاركة في السلطة، أو تصحيح مسارها، أو تحقيق منجز للمجتمع، أو إبعاد الضرر عنه.

فإذا جاء التحشيد لإنجاح أو إفشال مشروع قانون في البرلمان، أو من أجل عمل سياسي انتخابي أو حزبي، أو كان عملاً اعتراضياً ضمن مسيرة أو مظاهرة مرخصة.. فإنه مقبول وهو جزء من ممارسة العمل السياسي، ولا ضرر منه، طالما تمّت المحافظة على ثوابت الدولة واحترمت قيم النظام والقانون. على العكس من ذلك، فإنه يضر الدولة ونظامها السياسي والقيمي منع النشاطات السياسية والحقوقية التي تعبر عن نفسها في إطار القانون.

هذا كلّه يختلف عن ممارسة التحريض، تحت مسمّيات: النقد، وممارسة حرية التعبير، أو ممارسة حق من الحقوق المدنية والسياسية.

والسؤال كيف يمكن للمرء أن يجزم بأن هذا الفعل أو ذاك، يعدّ تحريضاً، وليس ممارسة مشروعة؟

هذه القضية هي التي واجهت البحرين خلال السنوات الماضية، والتي بسببها صدر الكثير من النقد والإتهام للأجهزة الحكومية.

فحين يتم الإعتراض على ممارسة ما خلاف القانون، تتذرع الجهات المتشددة بأنها ممارسة حق من حقوقها، حتى وصل الأمر الى اعتبار ممارسة العنف، واشعال الحرائق، وقطع الشوارع، والإضرار بالمصالح العامة والخاصة، مجرد (ممارسة حقوقية سلميّة!) لا تتطلب إذناً من الجهات المعنيّة!

من خلال التجربة التي مرت بها البحرين، هناك أربعة فوارق رئيسية بين ممارسة العمل السياسي وحرية التعبير من جهة، وبين ممارسة التحريض واعتماد خطاب تحريضي ـ سواء تضمن عنفاً أم لم يتضمن ـ من جهة أخرى. هذه الفوارق هي كالتالي:

الأول ـ أهم سمة للخطاب التحريضي ـ كما بدا جليّاً في البحرين من خلال ممارسات العنف والشغب ـ هي أنه لا يعبأ بأية ضوابط قانونية في العمل السياسي، سواء كان نقداً كلامياً أو كتابياً، أو عملاً على الأرض. عدم احترام القانون والنظام والدولة كلّها، هو ما يؤكد عليه الخطاب التحريضي، فهو يعلن بصريح العبارة بأنه لا يعترف أصلاً بوجود دولة. ولذا يرفض ممارسو التحريض تسجيل نشاطهم قانونياً ضمن الجمعيات السياسية؛ كما يرفضون إخطار الجهات المعنية حين يزمعون القيام بمظاهرة أو مسيرة.

النقد والتحشيد لتعديل وضع ما ليس معيباً ضمن الإطار القانوني؛ بل هو مطلوب. فالنقد والتحشيد كعمل سياسي يستحضران حقيقة أن هناك نظاماً سياسياً قائماً، وأن هناك أجهزة دولة مسؤولة؛ وأن هناك قانوناً يجب احترامه كسلوك حضاري، منعاً للفوضى، وحفظاً للمصالح العامة، وتطويراً لأداء الجمهور وللعملية السياسية.

لكن الخطاب التحريضي لا يستحضر أيّاً من هذا. هو يعتبر خرق القانون والنظام سلوك الأحرار!

الثاني ـ الخطاب التحريضي هو خطاب تبريري للذات فكراً وعملاً وأشخاصاً؛ أي أنه في الوقت الذي لا يقبل رأي أو فكرة أو عمل الآخر، فإنه ينزّه الذات، ويحوّر أخطاءها الى فضائل، ويجادل في مسائل واضحة كتصنيف هذا الفعل أو ذاك في خانة المشروعية، أو في خانة العنف.

وإذا كان من السهل على الجمهور تمييز العمل العنفي (إشعال الحرائق في الإطارات وقطع الشوارع، واستخدام قنابل المولوتوف، وحرق مولدات الكهرباء، وغيرها) عن العمل السلمي، فإن تمييز الخطاب التحريضي عن غيره ليس سهلاً بالضرورة. قد لا يلجأ خطاب التحريض الى تأييد أعمال العنف بصراحة، ولكنه يلتمس التبرير لها بصورة من الصور (يقال مثلاً أن المنخرطين في العنف أُجبروا على القيام به؛ أو أنهم كانوا يمارسون ردّ فعل تجاه سياسات حكومية ما؛ أو أن من قام بالعنف في الشارع وحرق السيارات هي الحكومة، لتنسب ذلك الى معارضيها) وهكذا.

ولذا نجد سمة أخرى لخطاب التحريض، هو أنه خطابٌ لا يدين العنف أبداً، وكلّما حُشر في الزاوية، خرج بإجابات تبريرية تتهرب من الواقع، وتؤكد على حقيقة إيمانه بأن ممارسة أعمال العنف تعتبر (حقّاً مشروعاً)! وينسب ذلك ـ ويا للسخرية ـ الى (مواثيق حقوق الإنسان)!

الثالث ـ يعتمد الخطاب والعمل التحريضيين على (التعميم والتوسيع) في الإتهام، وعلى (الراديكالية) في الحلول. فإذا ما وقع خطأ من مسؤول في أية دائرة أو جهة، يجري اتهام الطبقة الحاكمة كلها. لا يرى الخطاب التحريضي حلولاً موضعية لخطأ قائم، بل يوحي بأن كل الأجهزة فاسدة وأن الحل يكون باجتثاثها. وهو بهذا يكون قد ألغى الدولة والقانون، وفتح الباب لحلول راديكالية خارجهما، بل وقد يستبطن النقد هنا تحريضاً على العنف؛ لأن خطاب التحريض لا يمارس نقداً لعمل خاطيء لغاية تصحيحه، بل يريد تضخيماً للموضوع ومحاسبة للنظام ورؤوسه حتى في القضايا التافهة، وتأتي الحلول اقتلاعية لأصل الدولة والنظام.

الرابع ـ غالباً ما يكون الخطاب التحريضي مسكوناً بالمؤامرة. ومؤيدو خطاب التحريض ودعاته غالباً ما تمتزج دعوات التحريض لديهم بالحديث عن مؤامرات، أو ستناداً الى مؤامرات من نوع ما، تقوم بها جهات (معادية).. قد تكون جهة ما في الحكومة، وقد تكون خصماً سياسياً، أو حتى فرداً يختلف معهم في الرأي، وبالتالي يتم تضخيم نشاطاته وأعماله ومؤامراته ضدهم!

هنا يفقد الخطاب التحريضي واقعيته، ويفقد المبادرون والوسطاء فرص الحل والتسويات الوسطية بما يؤدي الى ترويض وترشيد هذا الخطاب، وهي الغاية الأساس من التواصل وإقامة حوار معه. ولكن الذي يحدث هو أن النقاش يخرج وبسرعه عن إطاره الواضح والمعقول والطبيعي، الى عوالم خفيّة، وهواجس مفتعلة، تجعل النقاش الموضوعي أمراً مستحيلاً.

قد لا تجتمع كل شروط الخطاب التحريضي في نشاط واحد، فقد تشمل مقالة ما أو خطاب ما بعض التحريض المبطّن، اعتماداً على واحدة من تلك السمات التي يتميز بها خطاب التحريض. ولذا فإن المحرضين درجات. بعضهم واضح وصريح، وتجد في خطابه السمات الأربع جميعاً. وهناك بعض (الأذكياء!) يكشفون جانباً من خطابهم التحريضي، حتى لا يقبض عليهم متلبسين بممارسته.