القوى السياسية والدينية والحقوقية: آن وقت المراجعة

حسن موسى الشفيعي

حسن موسى الشفيعي

أياً كان الموقف من الإجراءات الأمنية الحكومية الأخيرة، فإنها قد وضعت الجمعيات السياسية والمجتمع المدني والشخصيات الإعتبارية، الدينية والإجتماعية أمام مرحلة جديدة، بغض النظر عن توصيفها أيضاً. بعض القوى السياسية تخشى أن يكون ما جرى عودة الى مربع الماضي، وتنكبّاً عن طريق الإصلاح؛ وهناك من يؤكد بأن التجربة السياسية البحرينية الإصلاحية مستمرة، وأن اتخاذ الحكومة قرار المواجهة الأمنية يمثل تعديلاً لمسارها. بغض النظر عن هذه المواقف المتباينة، والخشية من العودة الى الوضع القديم، فإن القوى السياسية والإجتماعية عامة كان لها دور في وصول البلاد الى هذه النتيجة ـ حسنةً كانت أم سيئة ـ باعتبارها مشاركاً في صناعة مقدمات الحدث الأمني، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر عبر الصمت لدوافع مصلحية آنية، أو بسبب الخوف من اتخاذ قرارات صعبة ـ في مواجهة دعاة الشغب والعنف ـ قد تكلّف بعض القوى شيئاً من رصيدها في الشارع، أو بسبب القصور في الوعي والممارسة السياسية. وكما أن تلك القوى شريكاً في صناعة المقدمات، كان من الطبيعي أن تحصد بعضاً من النتائج المترتبة على ما كان يجري في الشارع لسنين طويلة.

المراجعة مطلوبة لسببين أساسيين:

الأول: محاولة إعادة الثقة في العلاقة بين النظام السياسي والقوى الإجتماعية والسياسية. وكذا إعادة الثقة في مسار الإصلاحات بما يؤكد قدرته على مواجهة التحديات التي يتعرض لها، وأهمها تحدّي العنف والشغب؛ دون أن تؤدي تلك المواجهة الى انتكاسة وارتداد على أساس المنهج والرؤية الإستراتيجة التي ابتنيت عليها الإصلاحات السياسية للملك.

الثاني: إن المراجعة في الخطاب والمواقف السياسية خلال السنوات الماضية، تقلص فرص نمو التيار الذي لا يؤمن بالعملية السياسية ولا بالإصلاح، كما وتقلص الخسائر المتوقعة بسبب المواجهات الأمنية، وبالتالي تحفظ الهامش الواسع الذي حققته البحرين من الحريات العامة التي حصلت على ثناء محلي وخارجي.

الإلتزام بالإصلاح الديمقراطي وبالمعايير الحقوقية يمثلان قوّة مضافة للدولة والمجتمع

ولربما يمكننا أن نضيف سبباً ثالثاً، وهو أن النظام السياسي، وحسب قراءتنا لأحداث الشهرين الماضيين، قد أعاد النظر في مقاربته لموضوعي (الإصلاح ـ الأمن) الذي نتمنى أن لا يكون تحقيق احدهما على حساب الآخر، بل يكونا مكملين لبعضهما البعض. فلا إصلاح بغياب الأمن، ولا أمن مستقرّ بدون الحفاظ على المكاسب الإصلاحية، وهذا واحدة من أهم المنافع التي توفرها الديمقراطية. وقد أكد الملك في خطابه (5/9/2010) على مواصلة مسيرة الإصلاح (ودعم أسس دولة الحق والقانون والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والازدهار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي). مثل هذا التعديل في المقاربة الرسمية بحاجة الى مقاربة موازية من قبل القوى السياسية والمجتمع المدني، يفترض أن تتلاقى مع التوجه الرسمي عند خطوط عامة، حمل خطاب الملك ـ آنف الذكر ـ بعضاً من ملامحها.

ومع أن هناك من يعتقد بأن الإصلاحات لم توفر الأمن المطلوب او المتوقع أحيانا ـ وهو صحيح الى حد ما ـ وأن المنظمات الحقوقية متحيّزة.. ومع وجود بعض الكتابات الناقدة في هذا الإتجاه في الصحافة البحرينية.. فإن الرأي المقابل يقول بأنه لا يمكن ضمان الأمن المستتب والشامل بالتخلّي عن مسار الإصلاحات الذي أكد الملك على مواصلته. إن الإلتزام بالإصلاح الديمقراطي وبالمعايير الحقوقية يمثلان قوّة مضافة للدولة والمجتمع، بعكس ما يتبادر الى ذهن البعض من أن الإصلاحات قادت الى التوتر الأمني، بحيث وفرت هامشاً واسعاً من الحرية دفع بالرافضين للعملية السياسية الإصلاحية الى الإستفادة منه والتقوي به من أجل الإنقلاب ليس فقط على الإصلاحات بل وعلى النظام السياسي نفسه، واستهداف رموزه، والتقليل من منجزاته.

لا.. ليست الإصلاحات السياسية التي أطلقها الملك هي التي سببت توتراً أمنياً؛ بل العكس تماماً. هي خفّضت من منسوبه، ولولاها لربما كان الوضع أكثر توتراً. الإصلاحات السياسية ليست هي من جاء بالعنف، ولا هي منحته الشرعية، أو بررت قيامه. فجذور التوترات في أبعادها الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، كما يعتقد البعض، تعود الى أوضاع سابقة على عهد الإصلاح. ورغم أنه لا يمكن لتلك الجذور أن تبرر استمرار العنف والشغب والإنقلاب على العملية السياسية، فإن حل القضايا يجب ان يكون عبر القانون والمؤسسات الدستورية القائمة، واستثمار فسحة الحريات المتوفرة. لا أحد يستطيع أن ينفي وجود المشاكل، ولكن طريقة حلها هو ما يجب تغييره، وهذا ما يفترض أن تراجعه القوى السياسية الفاعلة في الساحة البحرينية.

لا إصلاح بغياب الأمن، ولا أمن مستقرّ بدون الحفاظ على المكاسب الإصلاحية

هناك مسألة أخرى يفترض أن تتم مراجعتها، وتتعلق بضرورة الإلتزام بالقانون وإدانة الأعمال الخارجة عليه. لا يمكن أن تقبل بالقانون تحت مظلّة البرلمان، وترفضه خارج تلك المظلة أو القبّة. وفيما يتعلق بالأعمال الخارجة على القانون، فإنها لا تمثل فرصة سياسية تستثمر للنيل من النظام السياسي، بقدر ما تمثّل مشكلة قد تعطل العملية السياسية كلها، وخسارة ما تم إنجازه. القانون بحسب الملك (فوق الجميع لحماية كيان المجتمع والدولة، وحفظ الأمن، ونشر الطمأنينة والسلام) .وعليه، يفترض توفر الصدقية في التعاطي مع القانون واحترامه في كل الأحوال، سواء بالنسبة للحكومة أو القوى السياسية الأخرى. هذا هو معنى أن القانون فوق الجميع. إنه الناظم للسلوك السياسي، والحافظ لمصالح المجتمع، والضابط لمسار الدولة وأجهزتها من أن تنحرف عن أداء مسؤولياتها.

تبقى مسؤولية القوى السياسية في حفظ الوحدة الاجتماعية. فكثير من التوترات قد حدثت في الماضي بسبب الخطاب الطائفي، وعدم احترام خيارات التعدد والتنوع الثقافي، ومشاركة بعض تلك القوى في تأجيج الخطاب الفئوي، ما يحملها مسؤولية تجاه ما يجري، او جزءً غير قليل من تلك المسؤولية. لا بدّ وأن القوى السياسية لاحظت في الآونة الأخيرة تصاعداً في الإصطفاف الطائفي، مع تصاعد التوتر الأمني، بما يفيد تأكيد حقيقة أن التوتر الأمني ـ الذي يمثل الشغب والعنف رافداً أساسياً من روافده ـ يقود الى توتر طائفي؛ وأن الفتنة الأمنيّة تقود الى فتنة طائفية. ولقد شهدنا في البحرين هذا الأمر مراراً وتكراراً، دون أن نستوعب الدرس، فلا نكرر الخطأ.

إن التوتر الأمني له أبعاده السياسية الواضحة، وهو يقود الى قلق بعض الأطراف على مصالحها ومستقبلها، خاصة إذا كان الخطاب السياسي المتشدد ينتقي المفردات الطائفية أو ذات البعد الطائفي فيؤكدها، ويبني عليها ويفسر الأحداث السياسية والأمنية على أساسها. إن قمة التوترات الطائفية التي شهدتها البحرين كانت تأتي ـ في أكثر من الأحيان ـ في فترات التوتر والمواجهات الأمنية؛ ومن هنا كان واضحاً ـ حتى في خطاب الملك ـ أنه ليس فقط ربط بين الأمن وتحقيق الرخاء، وليس فقط أكد على التضامن والتعاون ومبادئ الأخوة وأهمية السلم الإجتماعي والأمن الجماعي، والإبتعاد عما يؤدي الى الفتنة والنزاع والإختلاف.. بل أنه وصف الأحداث بأنها أليمة تحمل صفة العدوان والفتنة؛ ودعا الى أن يكون خطباء المنابر من أصحاب الكفاءة والمعتدلين الوسطيين النابذين للعنف، داعياً رجال الفكر والثقافة والمجتمع المدني الى تقريب الشقة بين المذاهب الإسلامية لضمان تفاعلها وتعاونها وتقاربها.

المقصود من هذا كله، أن مراجعة القوى والشخصيات السياسية والدينية والحقوقية لخطابها السياسي ومواقفها وتصريحاتها، وضبطها على إيقاع المصلحة السياسية العامة، ووحدة النسيج الإجتماعي بعيداً عن الصراع الطائفي، وتوفير الحدّ الأدنى من أجواء الثقة بين القوى السياسية والدينية والمجتمع المدني من جهة وبين الحكومة من جهة أخرى، سيكون له أثر في تحصين الوضع الإجتماعي، وحماية المنجز السياسي، وبعث الإطمئنان في المجتمع بأن التجاذبات السياسية لها خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، وأن القيادات السياسية والدينية تتمتع بالنضج فلا تسمح لنفسها بالمشاركة في تدمير ما ابتني، وتشويه ما أُنجز، وتلطيخ سمعتها كما سمعة الدولة والمجتمع أمام الرأي العام الإقليمي والدولي.