حسن موسى الشفيعي

(المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان)
في مواجهة التحديات

حسن موسى الشفيعي

في 11/11/2009 أُعلن وبأمر ملكي إنشاء (المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان) التي تعنى بتعزيز وحماية حقوق الإنسان في البحرين، وفق مبادئ معيّنة صدرت من الأمم المتحدة تحت مسمّى (مبادئ باريس). ميزات هذا النوع من المؤسسات معروفة وهي انها تصدر عادة من إحدى المؤسسات الدستورية في الدولة، ما يعني توفر إرادة سياسية (وإن لم يجر اختبارها بعد) لتنشيط وحماية مهمتها الأولى، مضافاً الى ذلك الدعم الحكومي المالي المباشر الذي يمكنها من القيام بنشاطات لا تستطيع كثير من المنظمات الأهلية القيام به.

غني عن القول ان هناك العديد من هذه المؤسسات في بلدان العالم، بما فيها بعض الدول العربية كمصر والمغرب وفلسطين والجزائر وتونس وقطر، والسعودية، وغيرها. ولكن النظرة الدولية والحقوقية لهذه المؤسسات تختلف بين بلد وآخر، حسب التزام هذه المؤسسة او تلك بالنشاط والحيادية والإستقلال. ولذا فإن الأمم المتحدة أوجدت (اللجنة الدولية للتنسيق بين المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان) تقيّم عبرها مدى التزام هذه المؤسسات بمبادئ باريس، وهي لا تمنح العضوية الكاملة لأي مؤسسة إلا حين يقتنع أعضاء اللجنة الدولية بجدارتها. ولذا، نرى ان عدداً من المؤسسات في العالم العربي لم تقبل حتى الآن في تلك اللجنة، ما يعني وجود تساؤلات حول مصداقيتها، وقد يصل الأمر الى التشكيك في الأهداف من وراء تأسيسها.

حكومة البحرين التزمت طوعياً أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بإنشاء مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان، وها هي قد فعلت ذلك، لكن أمام المؤسسة ومن سيقع عبء نشاطاتها على أكتافهم، تحديات كبيرة يفترض فيها وفيهم تجاوزها وحلّها كيما تصبح المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان ذات مصدقية على الصعيدين المحلّي والدولي. التأسيس لا يمنح مصداقية كافية، وإنما هو النشاط والإستقلالية عن الحكومة، وتحقيق الأهداف التي وردت في المرسوم الملكي بإنشائها.

خلال زيارتي الأخيرة لمصر، ولقائي مع رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان الدكتور بطرس بطرس غالي، والأمين العام للمجلس السيد مخلص قطب، وعدد من رؤساء منظمات المجتمع المدني المصرية والإقليمية.. جرى حوار مطول في مواضيع كثيرة بينها موضوع انشاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في البحرين، والعقبات المتوقع مواجهتها. وكان من رأي الدكتور غالي أن المؤسسة البحرينية ستواجه ما واجه المؤسسات الأخرى حين تأسيسها، الى حدّ أنه ربت على كتفي قائلاً بعد أن شرح لي مشكوراً التجربة المصرية: (يا أخ حسن، أعدك بأنكم ستمرون بنفس التجربة، ولكن على المؤسسة الوطنية ان تثبت نفسها من خلال الكفاح والعمل، كما فعلنا نحن في المجلس القومي لحقوق الإنسان)!

في اعتقادي الآن، وبعد إنشاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في بلادنا، فإن الأخيرة ستواجه تحديات أربعة:

التحدّي الأول: الاستقلال عن الحكومة

بالرغم من أن الأمر الملكي الكريم بإنشاء المؤسسة الوطنية أكد على حياديتها واستقلالها في ممارسة نشاطاتها، إلاّ أن الدولة (بما هي دولة) لديها نزعة إلحاقية بحيث يخشى معها النظر الى المؤسسة كإحدى دوائر الدولة، تأتمر بقرار، وتخضع في نقاشها للمساومات، وتراعي مشاعر هذا وظروف ذاك. كل المؤسسات الوطنية العربية والأجنبية المشابهة ناضلت من أجل استقلال ذاتها عن أجهزة الدولة. وهذه المشكلة تتعمق إذا علمنا أن ميزانية تلك المؤسسات تقرره الدولة نفسها، وهي التي تعيّن في كثير من الأحيان رؤساء وأعضاء المؤسسة، ما يجعل لدى الدولة اليد العليا في فرض إرادتها وتقليص حجم استقلال المؤسسات الوطنية الحقوقية.

في التجربة المصرية، وحين أصدر المجلس القومي تقريره الأول عن أوضاع حقوق الإنسان، فإنه شكل صدمة لبعض المسؤولين لما ظهر فيه من نقد لاذع لعدد من الإنتهاكات، بل ان البعض هاجم التقرير، ولكن المعهد اصرّ على موقفه وطالب الحكومة بتفنيد ما جاء في التقرير والرد عليه رسمياً. وحين ظهر التقرير الثاني احتوى ردّ الحكومة ورد المجلس نفسه على الرد الحكومي. وبصدّ الكثير من الضغوط المتنوعة استطاع المجلس القومي ان يؤكد استقلاله وحياديته على ارض الواقع، رافضاً ان يتم التعامل معه كهيكل من الهياكل الحكومية. حتى في الموضوع المالي، وحسب الأمين العام للمجلس القومي المصري، فإن (على وزير المالية أن يأتي بالشيك ويذهب) ولا يحق له ان يتدخل في كيفية الصرف، بل حتى لو توفر فائض مالي فإنه لا يحق لوزير المالية ان يسأل عن الفائض المالي ولا عن أين يصرفه المجلس القومي.

وفي النهاية، فإن الدولة المصرية نفسها، ليس فقط تعوّدت على احترام استقلالية المجلس، بل أنها تستطيع أن تفاخر به بين الأمم، وصارت تشعر ببعض الإعتزاز من أنها تتعاون معه في تصويب الإتجاهات والسياسات الحكومية المتعلقة بحقوق الإنسان.

التحدّي الثاني: تشكيك المجتمع المدني

حسب التجارب المتوفرة، فإن منظمات المجتمع تبدي شكوكاً تجاه المؤسسات الوطنية الحقوقية، وهذا أمرٌ طبيعي، فهي مؤسسة من الحكومة، وميزانيتها منها، وبالتالي فإنها لا تمنح الثقة سريعاً وكاملاً للمولود الجديد الذي تنظر اليه وكأنه مخلوق حكومي، اللهم إلا بعد أن تتأكد من أن هذا المولود جاد وصادق وحيادي ومستقل في عمله ولا يغطّي الإنتهاكات والأخطاء الحكومية التي تقع.

في الغالب، فإن المجتمع المدني لا يرى مصداقية لدى المؤسسات الحقوقية الرسمية، ويعتقد أنها أداة من ادوات الدولة يراد منها تلميع صورة الحكومة، وتستهدف احتواء العمل الأهلي، فضلاً عن أنها تمثل منافساً حكومياً لمنظمات حقوق الإنسان. حدث هذا في مصر، ومع ان كل المنظمات الأهلية في البحرين رحّبت بـ (إنشاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان) إلا أنها ألمحت بصورة أو بأخرى الى خشيتها من أن تتحول الى (بوق حكومي) لا يفيد في تطوير مسيرة حقوق الإنسان.

في التجربة المصرية، معظم المنظمات الحقوقية والأهلية أعلنت صراحة تشكيكها في المجلس القومي حين اعلن عن تأسيسه، الى حدّ انها رفضت المشاركة في إدارته أو حتى التعاون معه، وأصدرت في ذلك بيانات تنمّ عن شكوك عميقة ودفينة تجاهه وطعنت في نية الحكومة من تأسيسه. ولكن المفاجأة جاءت بعد التقرير الأول الذي صدر عن المجلس القومي، والذي حوى تفصيلاته كثيرة عن الإنتهاكات والمشاكل في المؤسسات الرسمية، واصبح التقرير حديث الإعلام والصحافة في مصر وغيرها. هنا، تغيّرت نظرة القائمين على مؤسسات المجتمع المدني المصري، ورأوا أن التقرير أثبت استقلالية وحيادية ومصداقية المجلس. بعدها بدأت بالتعاون معه والمشاركة في إدارته والمساهمة في إنجاحه وتحقيق أهدافه.

التحدّي الثالث: كسب ثقة الرأي العام

الرأي العام العربي عامة لا يثق في أداء الأجهزة الحكومية، ويميل الى تصديق أي شائعة تقال عنها، خاصة فيما يتعلق بحقيقة وجود وحجم الإنتهاكات لحقوق الإنسان. أما اسباب ذلك فهي ليست من شأن هذه المقالة. وهذا ما يجعل كسب ثقة وتعاون الرأي العام المحلي مهمة بالغة الصعوبة، والفشل فيها يعني عدم جدوائية وجود مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان يفترض فيها التفاعل مع جمهورها، ومعرفة قضاياه ومشاكله والبحث عن حلول لها وتسليط الضوء عليها.

والنظرة الشعبية للمؤسسات الوطنية لا تخلو عادة من تجاهل، فالأخيرة متهمة قبل ان تبدأ نشاطها بأنها مؤسسات غير محايدة وحكومية ميؤوس منها، شأنها شأن الإدارات الحكومية الأخرى ضعيفة الإنتاج غارقة في البيروقراطية. ولأن الجمهور لا يمتلك الوعي الكافي حول طبيعة ونشاط المؤسسات الوطنية الحقوقية، لذا لا يبدي تفاعلاً ايجابياً معها، وبالتالي فإن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية جرّ الجمهور الى التفاعل مع مثل هذه المؤسسات، وكيف يمكن للأخيرة ان تفيد الجمهور في حل مشاكله.

في مصر، بادر المجلس القومي بالإتصال بالفئات الشعبية الضعيفة والفئات الأكثر حاجة والطبقات الدنيا من المجتمع، وأرسل وفوداً الى القرى النائية للإطلاع المباشر وبث الوعي، وأسس فروعاً له في المحافظات المصرية كافة، كما أسس لجنة دائمة لتلقي الشكاوى بمختلف الطرق، وتفاعل مع الشكاوى وتابع تفاصيلها من أجل الحل مع المسؤولين في الجهات الحكومية وقدّم بشأنها احصائيات وتصنيفات مفيدة لدراستها، وأبلغ الجمهور والمعنيين بالقضايا من المواطنين بكافة النتائج والتطورات. وفعلاً استطاع المجلس أن يكسب الجمهور المتظلّم الى صفّه بعد أن حقق له انجازات على الأرض، وبعد أن بثّ وعياً وأثبت استقلالا وحياداً.

التحدّي الرابع: كسب ثقة المجتمع الحقوقي الدولي

تستطيع الحكومات ان تزعم استقلال وحيادية نشاط مؤسساتها الوطنية الحقوقية، لكن هذا حتى لو انطلى على قسم من الجمهور، فإنه لا ينطلي على الجهة المسؤولة والمختصة في الأمم المتحدة والتي تقيم مدى مصداقية هذه المؤسسة الوطنية أو تلك، وفق مبادئ باريس. هناك ثلاث مراتب رئيسية في تصنيف المؤسسات الوطنية (أ، ب، ج). القسم الأول (أ) ويشمل المؤسسات الوطنية التي التزمت بصدق بمبادئ باريس وليس عليها أية تحفظات وتستحق بموجب ذلك العضوية الكاملة، وهناك أربع دول عربية نجحت في ذلك هي: مصر والجزائر والمغرب والأردن؛ والقسم الثاني (ب) ويشمل المؤسسات التي عليها بعض التحفظات، ولم تنل العضوية الكاملة كما هو الحال في قطر؛ في حين أن (ج) تشمل المؤسسات التي لم تلتزم بالمبادئ ولا تستحق العضوية كما هو الحال في تونس.

المجلس القومي المصري، لم يحصل على العضوية في السنة الأولى من تأسيسه، ولكن بعد اصدار تقريره الأول وتمّ تقييمه وتقييم نشاطه، نال العضوية الكاملة في اللجنة الدولية للتنسيق بين المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، وأصبح جديراً بالإحترام، وله كلمة مسموعة، وصار له الحق في أن يلعب دوراً حيوياً في أجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان.

هذه هي التحديات الأربعة التي تواجه المشروع الوليد في البحرين. وكلنا أمل أن لا نقع في مشاكل عميقة تعوق المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، وتهدر قيمتها ومكانتها والدور المأمول منها أن تؤديه. بلا شك فإن نضج الحكومة ونضج مؤسسات المجتمع المدني كما الجمهور قادر على تخفيض سقف هذه التحديات، على أمل أن تمرّ التجربة بقدر كبير من النجاح بما يرفع من مكانة البحرين كدولة، ومؤسسات المجتمع المدني، والجمهور البحريني الذي هو المستفيد الأكبر من أي تطور في الوضع الحقوقي.