|
حسن موسى الشفيعي |
أيّها النواب والسياسيون:
لا تقرّبوا نار الطائفية الى خبائنا
حسن موسى الشفيعي
أثارت الندوة التي عقدها عضو مجلس النواب الشيخ جاسم السعيدي في
منزله تحت عنوان (التحديات التي تواجه أهل السنّة والجماعة في البحرين)
أواخر اكتوبر الماضي جملة من الإثارات حول الوضع الطائفي في البحرين،
كون المتحدث الأساس في الندوة هو رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني،
الذي دعا الى تكتل للجمعيات السياسية السنيّة، مع تلميحات طائفية تبين
أن هناك اعتداء على حقوقها، وأنها تعتمد منهج (الصبر) وأن هناك ضرورة
ملحة لرص الصف لمواجهة التحديات الآتية من جهة ما، يفترض أن تكون نقيضاً
ومعتدياً على تلك الحقوق.
أساس الدعوة جاء من النائب السعيدي (سلفي) للجمعيات السياسية الإسلامية
السنيّة، لكي تصطف وتتخذ مواقف لا تحيد عنها تتعلق حسبما صرح بـ (الولاء
للقيادة والوطن، حقيقة التمييز الطائفي في البحرين، حقيقة التجنيس
الديمغرافي في البحرين، الموقف من الأعمال الإرهابية وضياع أمن الدولة
وهيبتها، الإتفاق على عقد إجتماعات دورية بين الجمعيات السياسية الإسلامية
السنية لمناقشة ما يستجد على الساحة). واتهم السعيدي تيارات لم يسمها
بأنها (تحاول العصف بالتيار الإسلامي في المملكة، والنيل منه عبر تشويه
صورة الإسلام الحنيف والملتزمين بشريعة الله عز وجل، وعبر توجيه الاتهامات
الجزافية، والإشاعات السياسية لتجيش الشارع وتحشيده ضد ولاة الأمر
والحكومة دون مسوغ شرعي ولا قانوني) في إشارة الى الإتجاهات السياسية
الشيعية.
من حسن الحظ، وما يجب الإشادة به، أن وزارة العدل والشؤون الإسلامية
لم تتأخر أمام هذا النوع من الإصطفاف الطائفي السياسي المخالف للقانون،
فأصدرت بياناً أكدت فيه أن الجمعيات السياسية بمختلف مسمياتها هي منظمات
وطنية شعبية تعمل على تنظيم وتمثيل المواطنين بصفتهم كمواطنين، وليس
بذواتهم أو تصنيفاتهم الدينية أو الطائفية، ولا على أساس الجنس أو
العرق أو اللون أو الأصل أو الطبقة، كما أنها تعمل على تعميق الثقافة
والممارسة السياسية في إطار من الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والديمقراطية،
والمحافظة على استقلال وأمن المملكة وصون الوحدة الوطنية، وتعمل بوسائل
سياسية ديمقراطية مشروعة وعلى الوجه المبين في الدستور وميثاق العمل
الوطني والقانون. وأضافت الوزارة بأن الدعوة الموجهة إلى هذه الجمعيات
السياسية بصفتها جمعيات إسلامية هي جمعيات تمارس العمل السياسي، فهي
ليست جمعيات إسلامية محض دينية، وقد نصت المادة الثانية من قانون الجمعيات
حرفيا على (ولا تعتبر جمعية سياسية كل جمعية أو جماعة تقوم على محض
أغراض دينية). موضحة بأن عبارة إسلامي وإسلامية إنما تشير الى الهوية
الجامعة لهذا الوطن، والحاضنة التي تتسع للمسلمين بجميع مذاهبهم، وغير
المسلمين باختلاف أديانهم، لذلك فإن الوزارة تؤكد وجوب الالتزام بالمحافظة
على الوحدة الوطنية وتماسك النسيج الاجتماعي.
وقد لاقت الندوة انتقاداً كبيراً رسمياً وإعلامياً ومن جمعيات أهلية
وسياسية، ما دفع برئيس مجلس النواب الى التراجع، وتأكيد الثوابت الوطنية
وثوابت العمل السياسي الذي تم إقراره في الوثائق الرسمية خاصة الميثاق
الوطني والدستور.
لكن، هذه الدعوة للإصطفاف الطائفي، من حيث التوقيت واللغة المستخدمة،
تثير جملة من القضايا نرى من الضروري إيضاحها:
أولاً ـ لا توجد قضيّة يمكن لها أن تفجّر النسيج الإجتماعي في البحرين
مثل الدعوات الطائفية، والتحشيد والإصطفاف الطائفيين. وهنا في المجتمعات
المتعددة ثقافياً، لا يوجد حلّ لمثل هذه الإنتماءات الفرعية، إلا بتعميق
الهوية الوطنية، واعتماد المواطنة كأساس في التعامل بين الدولة والشرائح
المختلفة. لكن الأمر المثير للدهشة أن هذه الدعوات الطائفية إنما جاءت
من نواب منتخبين، بل من رئيس مجلس النواب نفسه، ما يعني أن الطائفية
لم تنتزع حتى الآن من النخب الفكرية والسياسية، التي تبحث عن تعزيز
مواقعها السياسية من خلال التحشيد الطائفي، على النحو الذي رأيناه
في دول عديدة عربية وإسلامية وغير إسلامية حتّى. ولا يهم هنا أن تكون
النخب دينية أم لا، فالطائفية لا علاقة لها بدين أصلاً، فضلاً عن أن
تكون معياراً يعتمد عليه في بناء الأوطان.
ثانياً ـ من الصعب فهم مبررات ودوافع هذه الدعوات في عهد يفترض
فيه أن التسامح والمساواة والأخوة جزءً أصيلاً من المشروع الإصلاحي
الذي انتفع منه كل الأفراد والطوائف والإتجاهات. لكن نظرة فاحصة قد
تشير الى دوافع محتملة. أهمها، ما يتعلق بتأثير الأوضاع الإقليمية
ـ خاصة ما جرى في العراق من اشتباك طائفي وصل الى حد القتل على الهوية
الطائفية ـ على الوضع البحريني، حيث تسرّب الإحتقان الطائفي الى كل
الأطياف والنخب، قومية أو يسارية أو دينية. وليست البحرين بدعاً في
هذا. وقد أُضيف الى هذا مسألة أخرى، وهي أن هناك تدخلات طائفية من
دول الجوار، رأت تصفية حساباتها على أرض غيرها.
ومن جهة أهم، فإن مشروع الإصلاح، والذي يفترض فيه إزالة الإحتقان
الطائفي، امتصّ الإحتقان من فئة اجتماعية هي الشيعة، ورفع مقام العائلة
المالكة الى مرحلة (أبوية) لكل الفئات والشرائح، وأشرك جميع الفئات
في الماكنة السياسية، بما فيها التيار الإسلامي السنّي عبر آليات الديمقراطية..
لكن هذا المشروع رغم تحقيقه منجزات عديدة في هذا الإتجاه، سبب امتعاضاً
لدى الجهات المتعصّبة طائفياً الشيعية والسنيّة، والتي ترى كل واحدة
منها أنها لم تنل حقّها بما يكفي، فصار يلقى باللوم على الحكومة بأنها
تماليء هذا الطرف أو ذاك. لا ننس هنا حقيقة أن واحدة من المعوقات الكبرى
التي تعترض التحول نحو الديمقراطية هي مسألة التسليم بالمفاهيم، فمثلاً
ليس كل واحد يعجبه أن تكون هناك مساواة بين المواطنين، اما اعتماداً
على نص ديني مجهول، أو اعتماداً على مقدار القرب من النظام السياسي
والولاء له. والحال أن الآليات الديمقراطية ومفاهيم المساواة والعدالة
الإجتماعية جاءت لخدمة الجميع، الأشرار والأخيار، الشيعي والسنّي،
المسلم وغيره، اليميني واليساري.
ثالثاً ـ حين نقول بأن الطائفية لا دين لها، فإننا نقصد بأن ما
يتبدّى وكأنه صراع أفكار أو عقائد، ليس كذلك بالضرورة في واقعه. قد
يكون كذلك لدى الأفراد العاديين، ولكنه ليس لدى النخب التي تشحن جمهورها
طائفياً، فهي تدرك بأن الغطاء الطائفي إنما يكشف عن صراع سياسي على
المصالح التي لم تنتظم ويسلّم بها الواحد تجاه الآخر. لنأخذ مثلاً
الموضوعات التي طرحها السعيدي للنقاش أعلاه، فهي قضايا سياسية بحتة،
يراد تفسيرها سياسياً لخدمة مصلحة طرف ما. وخذ على الطرف الشيعي ذات
الموضوعات: التجنيس، التمييز، الولاء، فإنه يعطيها مدلولات مختلفة
لخدمة أغراضه السياسية أيضاً. ويمكن وضع مقولة أن الشيعة هم السكان
الأصليين وأنهم الأكثرية وغير ذلك في ذات الإتجاه. السؤال: أين الموضوع
الطائفي في بعده الديني؟ كل هذه الموضوعات تختزن شحنة من المعاني يراد
منها تحصيل ما يعتقد أنه حقوق مسلوبة أخذها الطرف الآخر، والطرف الآخر
يرى في مقابله جهة تريد تقليص ما بيده من مصالح يرى أنها من حقوقه
وأنه أحقّ بها. والصحيح أن المساواة يفترض أن تلغي الشعور بالإجحاف،
وأن تلغي مقولات أكثرية وأقليّة، كما وتلغي مسألة مواطن أصلي وآخر
غير أصلي، فالمواطن أياً كانت تسميته له حقوقه المتساوية مع الآخرين،
وليس للأصلي حقوقاً إضافية، ولا لمن يزعم أنه أكثر ولاءً للنظام السياسي
دالة على النظام ينتظر منه مكافأته عليها.
رابعاً ـ إذا كان الصراع والتحشيد الطائفي هدفه نيل أكبر قدر من
كعكة السلطة ومغانم خدمات الدولة حتى ولو كان على حساب الآخر (مثل
التوظيف للعاطلين عن العمل، الحق في الإسكان، المناصب العليا) وهي
أمور تكررت توظيفاتها في الخطاب السياسي الديني بشقيه الشيعي والسنّي،
وللأسف من نواب منتخبون في البرلمان.. فإن الحلّ تصنعه الإرادة السياسية
العليا المتمثلة في الملك، والتي تعمد ـ كما هو واضح ـ الى إيجاد التوازن
في المصالح بين الأطياف والفئات المختلفة. ومن جانب آخر هناك أمور
أخرى يمكن أن تساعد في تخفيف حدّة المشاعر الطائفية وهي كالتالي:
1/ تبيّن أن النخب السياسية، الدينية منها بوجه خاص، قليلة الخبرة
والنضج السياسي، وإن الخطاب الطائفي وإن خدمها في مرحلة من المراحل،
فإنه نذير شؤم على المجتمع كلّه، وعلى من يستخدم الخطاب الطائفي نفسه.
ستبقى ثنائية الشيعة والسنّة قائمة، ولا مخرج للجميع إلا بالتعايش
وقبول الآخر، واحترام حقوقه، ونزع اللغة الطائفية من الخطاب السياسي،
وهي لغة تتناقض مع كل ما قام عليه مشروع الإصلاح، وكل ما ابتني من
مؤسسات، وكل ما جاءت به مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
2/ إن النزعة المتشددة والعنيفة في الشارع الشيعي قد أثارت بعض
مشاعر القلق والخوف، واخترقت الثوابت الوطنية.. ولما كانت المعالجة
الرسمية اتسمت بقدر كبير من الحكمة والتسامح، لتحقيق الغايات الوطنية
الكبرى في الإستقرار وتمتين اللحمة الوطنية والنسيج الإجتماعي، فإن
تلك النزعة المتشددة، لا ينبغي أن يتعاطى معها بصورة نمطية، وكأنها
تمثل الطائفة الشيعية بأكملها، ويجري على أساس ذلك اتخاذ مواقف طائفية
وخطابات تفكك اللحمة، وتحريضية للسلطة على البطش، خاصة وأن أصحاب النزعة
العنفية المتشددة يعملون خارج إطار القانون، وجهاز الدولة.. في حين
إذا ما جاءت الردود طائفية من شخصيات منتخبة، أي أنها (جزء من السيستم)
فإن ذلك يعدّ تحطيماً للبنى السياسية القائمة. لنترك القانون يتعاطى
مع الشغب والعنف، ولنقبل بحكمة المسؤولين في معالجة الملف الأمني،
ولكن لنبتعد عن تطييف السياسة والأمن، وتحويلهما الى منفعة خاصة. ولنبتعد
أيضاً عن استيراد المشاكل الطائفية من الخارج، وتحويلها الى عنصر فاعل
في السياسة المحليّة، فما لدينا من مشاكل يراد علاجها يكفينا عن استيراد
مشاكل الآخرين لتزيد ساحتنا لهيباً (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم
لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم).
3/ في كل الأحوال يجب أن يلتفت السياسيون المنتخبون وغيرهم الى
عدم جرّ أجهزة الدولة ومسؤوليها الى مستنقع الخلاف الطائفي، فهذه الأجهزة
والمسؤولون عليها يقدمون خدمة عامة لكل المواطنين بمختلف أطيافهم الدينية
والقبلية. الدولة للعامة وليس للخاصة. والدولة وأجهزتها فوق هذا تقوم
بدور المنظم للخلاف الإجتماعي، وهي المعوّل عليه في حل المشاكل، كما
أنها القاضي بين الأطراف، والضامن للتوازن والإستقرار. وكما تحكي تجارب
الدول المعاصرة وفي شتى أصقاع الأرض، فإن النقطة الفاصلة بين الخلاف
الإجتماعي العادي والصراع الأهلي، على أسس عرقية أو دينية، جاءت حينما
نجح الفئويون طائفياً أو عنصرياً في جرجرة أجهزة الدولة لتخدمهم في
صراعهم مع الآخر.
الإختلاف الطائفي باق، ورجال الدين مسؤولون عنه، ويطالبون بالتحاور
والنقاش ووضع الضوابط له، يعينهم في ذلك قانون عصري يجرم تحقير الآخر
والإعتداء على مقدساته. أما المشكل السياسي فحلّه ليس في الشارع، ولا
في الإصطفافات الطائفية، ولا بالعنف. المشكل السياسي يناقش في البرلمان،
ليتحول الى تشريعات وقوانين ومشاريع عمل.
|