النضج السياسي والحوار الوطني

في وقت تتواصل فيه التجمعات والتظاهرات مصحوبة أحياناً بالشغب وقنابل الغاز ودخان حرائق الإطارات.. تتمسك جميع الأطراف السياسية بمواقفها القديمة؛ فيما يعيش المجتمع والمؤسسات المدنية حالة عالية من الإستقطاب، وتتواصل فيه القطيعة الإجتماعية، ومضخّات الشحن الطائفي من النخب الدينية والإعلامية والسياسية.

على المستوى الحقوقي، وبالرغم من الجهود التي تبذل لإصلاح ما أفسده الصراع السياسي، فإن هذا الصراع بذاته يبقي الإحتقان في الشارع قائماً، ويولّد أفعالاً وردود أفعال يكون ضحيتها في كثير من الحالات (حقوق الإنسان).

هناك بعض المؤشرات على النضج في المواقف السياسية وفي الممارسات ايضاً. ولكن يبقى المؤشر الأساس سياسياً بامتياز، وله علاقة بموضوح حوار المتخاصمين السياسيين. فبمقدار ما ينجز في هذا الموضوع (الحوار) الذي يفتح أفقاً في الإنسداد السياسي، ستصطلح وتنفرج الأزمات الأخرى المتولّدة بسببه: الحقوقية والإجتماعية.

هناك اجماع في المحيط الوطني والإقليمي وحتى الدولي على أهمية الحوار الوطني الذي ينتج توافقاً سياسياً، وتركيبة سياسية تحمّي البلاد من الخضّات لأمد طويل. فالحلول قصيرة المدى تجاوزها الزمن. وهنا تكمن الصعوبة، فهكذا حوار يراد منه احداث تغيير كبير يدرك الجميع ضرورته، ولكن يصعب انتاجه في فترة قصيرة، فهو يتطلب تنازلات متبادلة، ونظرة استراتيجية مستقبلية لحال البحرين بعيدة عن الحسابات المصلحية الآنية. ومع أن دعوات الحوار مشجّعة، لكن هنالك شكوك في نضج الظرف الداخلي كما الإقليمي بما يكفي لتحقيقه. ومما يؤسف حتى الآن، فإن القوى السياسية المحلية لم تهيّء نفسها بما فيه الكفاية لخوض غمار الحوار الوطني.

محزن أن ينتهي الأمر الى حالة تقعد اللاعبين السياسيين عن تقديم المبادرات للخروج من مأزق يمكن تجاوزه لو أن الفرقاء المعنيين وضعوا مصلحة البلاد العليا فوق المصالح والمكاسب الفئوية والشخصية، ولو أنهم وضعوا رباط المواطنة فوق التحزبات الضيقة وابتعدوا عن التمترس الملتحف بالعناد وضيق الأفق. ومن المؤلم أن البحرين، ذات السبق في الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي، وذات التاريخ الناصع فيما يتصل بالتسامح والتعايش والتآلف على كل المستويات.. لاتزال محاصرة بفتنة عبثية لا طائل من ورائها غير تفتيت وحدة البلاد وإغراء الطامعين والمتربصين بها.

إن المسئولية الوطنية تحتم على جميع اطراف الأزمة أن تتحلى بأعلى درجات التجرد ونكران الذات، والترفع عن الصغائر، وأن تسعى جاهدة وجادة، عن طريق الحوار البناء لا المجابهة وتبادل الإتهامات، للخروج بالبلاد من محنتها ولتمكينها من إستئناف مسيرتها على طريق الإصلاح والتقدم. كما تفرض هذه المسئولية على أهل الفكر وحملة الأقلام ودعاة السلام والإستقرار ان يدلوا بدلوهم تبيانا وترشيدا وهداية لسبل إنتشال الوطن من عثرته، وإعادة الوئام وروح التسامح والألفة بين ابنائه.