نحو مجتمع مدنيّ حرّ ومستقلّ

تتفاوت نظرة الدول الى مؤسسات المجتمع المدني بشكل حاد، وهناك ثلاثة أنماط في التعامل مع المنظمات غير الحكومية (والى حدّ ما الأحزاب السياسية المعارضة التي عادة ما تشترك في كثير من اهدافها وأنشطتها بمؤسسات المجتمع المدني). أنماط التعامل هذه هي :

1/ المواجهة والعداء: حيث لا تسمح بعض الدول بمجرد قيام مؤسسات أهلية، وتنظر اليها كخطر باعتبار امكانيتها في أن تتحول الى شريك في صناعة القرار، وفي اي موضوع كان. لهذا لا تسمح ـ قانوناً ـ بنشوء أي جمعية، كما لا تسمح بتسجيلها رسمياً، بل لا يوجد أحياناً قانون للجمعيات الأهلية غير الحكومية. واذا ما تأسست في بعض الأحيان ـ كالجمعيات الخيرية ـ فإن بعض الدول تتدخّل فتربطها قانوناً بجهة رسمية (وزارة او مؤسسة حكومية)، فيصبح النشاط الأهلي نشاطاً رسمياً مقيّداً بالأنظمة الحكومية، وغير مشجّع للتفاعل معه شعبياً. وفي أحيان أخرى، تعمد تلك الدول الى قمع الناشطين والمتطوعين، فتقتحم مقار عملهم، وتصادر اجهزتهم، وتزجّ بالقائمين على النشاط في السجون، بحجة مخالفة القانون.

2/ السماح مع التقييد: سواء كان التقييد جزئياً أو كليّاً. حيث تقوم بعض الدول ـ وفي موضوعات معيّنة ـ بالسماح لها بالعمل دونما تدخّل؛ وفي موضوعات أخرى، تقيّد نشاطها، ولا تقوم بمساعدتها فحسب، بل وأيضاً تضع القوانين التعسفية من أجل تعويق نشاطها. ومن وسائل التقييد وخنق المناخ الحرّ: عدم السماح للمجتمع المدني بالمشاركة في العمل بحرية واتخاذ مواقف مغايرة لتلك التي تتخذها السلطات الرسمية؛ وكذلك عدم السماح له بممارسة دور المساءلة للسلطات في أدائها؛ كما لا توفر الأخيرة المعلومات المتعلقة بالشأن العام، خاصة في القضايا المجتمعية التي يفترض ان يساهم المجتمع المدني في إيجاد حلول لها.

وفي نهاية الأمر، فإن هذه الدول، تكون قد حرمت نفسها ومجتمعاتها من القيمة والخدمات التي تضيفها منظمات المجتمع المدني، بسبب أنها خلقت بيئة أمنية وسياسية عامّة غير مؤاتية وغير مشجعة لأي أنشطة مدنيّة.

3/ رفع القيود بشكل كامل: حيث تسمح بعض الدول بنمو منظمات المجتمع المدني إدراكاً منها لأهميتها القصوى في أي مجتمع حي، لحل مشاكله، وتطوير أداء الدولة، وإلفات نظر الحكومة الى القضايا المهمة، وإضافة طاقات مجتمعية وشبابية تساهم في صناعة القرار وحل المشكلات على الأرض، وغيرها. هذه الدول تسمح بإنشاء كل المنظمات وبمختلف توجهاتها، وتوفر لها البيئة السياسية والقانونية المشجعة لعملها، بل وتضع بعضها قوانين ضريبية تسمح للأفراد ان يتبرعوا بها للمؤسسات الخيرية. اكثر من هذا فإن بعض الدول تجيز القيام بأنشطة سلمية حتى وإن جاءت من منظمات غير مسجّلة قانوناً.

هناك فارق كبير في رؤية الدول بين من ترى أن منظمات المجتمع المدني شريكاً في التنمية والسياسة والخدمة العامة، وبين من تراها عبئاً وخطراً، او منافساً مزعجاً للسلطات العامة. وبقدر ما يكون هناك حيّز مشجّع لنمو المجتمع المدني، يكون هناك مجتمع حيّ وناشط وواعٍ بمسؤولياته يتجه نحو بناء دولة ديمقراطية. ذلك أن المجتمعات التي ينشط فيها المجتمع المدني الحرّ والمستقلّ، لا بدّ وأن تتوفر فيها إمكانات التطوير، وتتوفر لدى أبنائها أدوات تفكيك حلقات الإستبداد من خلال المشاركة العملية في تغيير الواقع، ومن خلال الحرية في التعبير والتجمع التي تحفر عميقاً في تدمير أسس التخلّف.

لا غرابة اذن، أن يُنظر الى وجود وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني، كمقدمة وكمؤشر الى النمو الديمقراطي في بلد ما. ولا عجب إذن، أن الدول غير الديمقراطية، تدرك مآلات توسعة آفاق الشراكة المجتمعية في صناعة القرار من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وإن حُصرت في الموضوعات غير السياسية.. ستؤدي في النهاية الى تطوير النظام السياسي والاجتماعي والإقتصادي والتعليمي وغيره.

البعض يرى هذا ميزة وفائدة، والبعض الاخر يعتقد أنها خطر، ومن هنا اختلفت النظرة الى المجتمع المدني.

ان فائدة المجتمع المدني كبيرة لأي دولة: فهو يخفف من أعبائها في ميادين مكافحة الفقر، وعدم المساواة الاقتصادية، وفي مكافحة الفساد، وفي حماية البيئة، وفي نشر الوعي والثقافة والاعتدال، ومحاربة خطابات التحريض والكراهية، ومواجهة العنف ومنع الجريمة، وتأهيل الشباب وتمكينهم، وكذلك النساء، وتثقيف المجتمع في مواضيع العدالة الاجتماعية، وتساهم في حماية حقوق المستهلك، وفي توفير الخدمات الاجتماعية، فضلاً عن أهميتها اثناء الكوارث.

وهناك فوائد أخرى لا تقل أهمية، فالمجتمع المدني يساهم في تعزيز الحريات العامة والدفاع عنها، وفي تعزيز سيادة القانون والمساءلة، وتطوير مستوى الشفافية، وحماية حقوق الأقليات والفئات الضعيفة في المجتمع، وغيرها.

وملخص هذا الدور يعني أن المجتمع المدني يمثل حجر أساس في استقرار المجتمع، ومنع الاضطرابات فيه، وتعزيز سيادة القانون، وكذلك في ترسيخ الاستقرار للنظام السياسي، وتحسين أدائه، وحمايته من شرور العنف.