العدل أساس الإستقرار
تحتاج الدول في تعزيزها لحقوق الإنسان الى كثير من الأمور: تشريعات
وقوانين ناظمة وحمائية؛ مؤسسات تنفذ القانون وتحمي العدالة؛ تدريب
وخبرات وبناء قدرات العاملين على نفاذ القانون؛ نُظم قضائية فاعلة
ومستقلة؛ منظمات مجتمع مدني راشدة؛ ومجتمع واعٍ بحقوقه فاعل في مؤسساته
يحترم ويقدّر قيمة القانون والإنضباط.
وفي مجتمعاتنا نسمع عن أهمية تطبيق واحترام القانون ووجود نظام
عدالة فاعل؛ كما نسمع عن أهمية وجود الرأي الآخر؛ واحترام التنوّع
الثقافي وغيره؛ وضرورة تثبيت قيم المواطنة في الحقوق والواجبات وغيرها.
لكن كل هذا قد لا نجده مطبّقاً بالشكل الذي نريده على أرض الواقع.
فأنّى اتجهت وجدتَ خروقات سواء في الأجهزة الرسمية، او في مؤسسات المجتمع
المدني، او حتى لدى تعامل الأفراد فيما بينهم، ما يجعل مسألة تطبيق
القيم، وفي مقدمتها: العدالة، أمراً محلّ تساؤل، فيما إذا كان الجميع
يريدها فعلاً لا قولاً فحسب.
قالت العرب فيما مضى: (العدلُ أساسُ المُلْكْ)، أي أن العدالة توفر
ضماناً لاستمرار الحكم واستقرار المجتمع. فإذا كنّا نؤمن بهذا، فلماذا
تقع الإنتهاكات وقد تتوسع كثيراً، فتشمل حتى جهاز القضاء المعني بتحقيق
مبدأ العدالة نفسه؟
نظنّ ـ على الأقل في بلداننا العربية ـ أن هناك أزمة في الرؤية
لمآلات العدالة وفائدتها؛ فلو كان الإعتناق بها راسخاً ما تمّ اختراقها.
حين لا يدرك القاضي ـ على سبيل المثال ـ أن العدل في الحكم حتى
على المجرم ضرورة للنظام العام، وللمجتمع، وحين لا يعلم أن تحيّزه
قد يؤدّي الى زعزعة أركان الدولة، والى أن يأخذ الناس القانون بيدهم
والاعتماد على عضلاتهم، والى تجييش داخل المجتمع ضد الحكومة وأجهزتها..
حين لا يدرك هذا، وينساق مع عاطفته، أو تصوراته الخاصة بأن العدالة
لا تحقق الأمن، وتتطلب الشدّة والخروج على القانون.. حينها فقط لن
يجد حرجاً في اصدار حكم ظالم، او يعدّ تجاوز القانون أمراً سيئاً.
وفي مثل هذه الحالة، ليست القضية بالأساس تعود الى نقص في الكفاءة
الفنيّة، ولا الى الحاجة للتدريب والمهنية والخبرة، بقدر ما هنالك
نقص في الرؤية العامة لسيرورة الدولة، وكيفية تحقيق المصلحة العامة.
ومثل هذا يمكن ان ينطبق على من ينتهك القانون داخل السجون فيقوم
بالتعذيب؛ فهؤلاء قد يظنّون أنهم بتجاوزهم إنما يخدمون الأمن، عبر
إيقاع الأذى بمن يخرقه بنظرهم، وليس بالضرورة بنظر القانون. هؤلاء
يعتقدون أنهم يفعلون خيراً في تحقيق الإستقرار، وردع المجرمين. لكنهم
لا يعلمون بأن أخطر العنف الذي هدد مجتمعاتنا العربية (مصر مثلاً)
إنما نشأ في حواضن العنف داخل السجون، وأكثر ما ابتليت به الأنظمة
أن عنفها ـ غير الشرعي وغير القانوني ـ ارتدّ على شكل موجات من التمرّد،
وحرّض التعذيب او القمع غير المشروع عوائل وأقرباء الضحايا على الحكم
نفسه. وبالتالي فإن الظلم أعاد انتاج نفسه وتمظهر على شكل عدم استقرار
اجتماعي وسياسي وأمني.
عدم العدالة في توزيع الثروة أو الخدمات بين المناطق والفئات الإجتماعية،
والإحتكار السياسي القائم على التهميش، وتسويد ثقافة معيّنة أو هويّة
فرعية على حساب أخرى؛ وغيرها من صنوف الظلم، تخلق حواضن عدم الإستقرار،
الذي يزداد كلما ازدادات حالات الظلم وتعددت أنواعه، خاصة إن لم يجد
من مسؤولي الدولة وقفة تردعه، فحينها يتوسع الشك فيشمل كل الأجهزة
والمسؤولين، ويتفشّى السخط الذي يبحث عن متنفس له لينفجر بوجه الجميع.
نحن مطالبون في الأساس بتوسيع أفق من يقوم بخدمة المواطنين في كل
أجهزة الدولة، خاصة في أجهزة نفاذ القانون، وفي القضاء.. فما لم يدرك
هؤلاء بأن القانون والعدالة ضرورة للضحية وللمجتمع وللدولة، فإنه لا
يفيد تدريبهم ونقل الخبرة إليهم، حتى لو كان هنالك نقص في هذا المجال.
ولهذا، فإننا نظن بأن هنالك حاجة ماسّة الى حلّ جذر المشكلة، من خلال
التعليم والتربية بأن العدالة حصنٌ للمجتمع والدولة، قبل أن تكون حصناً
لنظام الحكم وحده. وأنه بقدر ما يكون هناك ابتعاد عن أصول العدالة،
يكون هناك عدم استقرار، وتكون البلاد مرشّحة للإنفجار، مهما استطال
القمع، ومهما بدا لنا ان الظلم قد حقق نتائجه المطلوبة.
ونحن مطالبون أيضاً، بمكافحة سرطان الظلم بسلاح العدالة، منعاً
لانتشاره، ومن ثم انفجاره.
صحيح ان الظلم موجود ـ بصورة او بأخرى ـ في كل دول العالم، لكن
بعض الدول تقوم بفضحه علناً ومحاصرته ومعاقبة من يقوم به، منعاً لتغوّله،
فيما تتساهل دول أخرى تجاهه، فيصيبها بلاء انتشاره، ويفقد المجتمع
ـ كل فئات المجتمع ـ استقراره وأمنه.
|