البحرين: خطـوات باتجاه تعـزيز العـدالة الانتقالية
|
المحامي سامر موسى |
المحامي سامر موسى
منسق برنامج المساعدة القانونية لدي مؤسسة الضمير
لحقوق الإنسان – قطاع غزة
اللجوء إلى تفعيل مفهوم العدالة الانتقالية يضمن إلى حد بعيد تحقيق
العدالة وتضميد الجراح خلال فترة الانتقال الديمقراطي على مستوى التطبيق
الفعلي؛ وقد يكون اللجوء إلى هذا الطريق التصالحي أجدى من اللجوء إلى
طريقة رفع الدعاوى القضائية ، لأنه يضمن إرساء ثقافة المساءلة الاجتماعية،
ويمهد السبيل إلى مصالحة وطنية تقوم على معادلات متساوية، تنبذ العنف،
وتقبل بالصلح الذي لا يضيع حقوق الضحايا، أو يجعلهم في مكانة أدنى
يمكن استغلالها لتمرير شروط مجحفة بحقهم، أو يدفعهم إلى اعتماد مبدأ
الثأر أو الانتقام، أو اللجوء إلى القضاء الدولي، أو الاصطفاف الإقليمي،
الذي يزحف حثيثاً للنيل من السيادة الوطنية للدول.
ان مفهوم (المصالحة الوطنية) في المناقشات المتعلقة بتطبيق وتنفيذ
العدالة الانتقالية له عدة معانٍ مختلفة، فهو في نظر البعض مرتبط بالجهود
المبذولة من جانب السياسيين (لطي صفحة الماضي أو للعفو والنسيان).
ولكنننا ـ كمدافعين عن حقوق الإنسان ـ نادراً ما نقبل هذه الصيغة من
المصالحة، محتجين بقوة بأن المصالحة الحقيقية يجب أن تكون مرتبطة بالمحاسبة
والعدالة والتعويض والاعتراف بالأخطاء الماضية، وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
وفي الغالب، فإن المصالحة تقدم كهدف نهائي وقابل للإنجاز، دونما
إيلاء ما يكفي من الاهتمام للعملية التي يمكن أن تنجز من خلالها. وعليه،
فإن الإفراط في التركيز على المصالحة قد يؤدي إلى الفشل وخيبة الأمل.
إن تنفيذ العدالة الانتقالية، يوفر جملة كبير من الميزات، أولها
الشمولية في التعامل مع إرث الانتهاكات؛ وثانيها التوازن والإدماج.
فالعدالة الانتقالية لا تركز على المحافظة على السلم الأهلي على حساب
حق الضحايا في العدالة، لهذا يمكن ـ وإلى درجة كبيرة ـ قياس مشروعية
آليات العدالة الانتقالية بمدى اعتراض الضحايا عليها أو دعمهم لها،
وإلى أي درجة يمكنهم المشاركة فيها والاستفادة منها.
وعلى الرغم من رأي البعض بأن البحرين غير جاهزة ـ في الوقت الراهن
ـ ولأسباب متعددة، لتطبيق العدالة الانتقالية، إلا أنني أعتقد ان غالبية
الشعب البحريني قادرة على تطبيق العدالة الانتقالية، وتجاوز محنة الماضي،
وما تركته من انتهاكات وتداعيات سلبية، لأن معظم المواطنين يؤمنون
بأن ما يجمعهم بكافة أطيافهم هو أقوى بكثير مما يفرقهم؛ ولعل معظم
البحرينيين يدركون اليوم، بأكثر من أي وقت مضى، حاجتهم للعيش المشترك
وفق عقد سياسي واجتماعي جديد، يحتكم إلى العقل والتسامح والديمقراطية
وحقوق الإنسان.
ويؤكد الأستاذ حسن موسى الشفيعي على أن مفهوم العدالة الانتقالية
له معانٍ مختلفة بحسب الأطراف المعنيّة به، وفلسفته قائمة على
أن الدولة التي تريد أن تسير في منحى ديمقراطي بحاجة إلى (قطيعة)
مع الماضي بكل مآسيه وأخطائه، والقطيعة مع الماضي تعني إرساء
قواعد (عدم تكرار تلك الأخطاء)، وبحسب البعض، فإن عدم تكرار
الأخطاء يفترض مراجعة الأخطاء الماضية ومحاسبة من قام بها. ومن
وجهة نظرة السيد الشفيعي، فإن بعض آثار الماضي لا تزال باقية،
ولم تجد لها حلاً توافقياً، رغم أن الحكومة حاولت تقديم بعض الحلول،
على الأقل لأولئك الذين عانوا في المرحلة الماضية، ولكن البعض
ربما أراد استثمار الموضوع سياسياً، والبحث عن (إدانة سياسية) أكثر
من بحثه عن حل لطيّ صفحة الماضي، الأمر الذي يجعل الموضوع مجرد
ورقة للاستخدام السياسي.
لكن ما يهم في كل هذا، أن الحكومة يفترض أن تكون خلاّقة
وصاحبة مبادرات على الدوام، كما يفترض بدعاة تطبيق العدالة الانتقالية
أن يستوعبوا الظرف السياسي القائم من جهة، وأن يدركوا بأن
العدالة لها وجهان، فليست الحكومة وحدها من أخطأ، بل حتى المعارضة،
وفي هذا الإطار نحن بحاجة إلى تسالم وطني، وإلى تسامٍ على الجراح،
وإلى اعتراف بالحقائق ولو كانت في غير صالح هذه الجهة السياسية
أو تلك.
مع حدوث تحول أو صراع سياسي في أي مجتمع من المجتمعات، يجد المجتمع
نفسه أمام تركة صعبة من انتهاكات حقوق الإنسان، ورغبة في تعزيز العدالة
والسلام والمصالحة. وقد لا يجد من حلول أمامه سوى العودة الى مفهوم
(العدالة الإنتقالية) والذي يعني: السعي من أجل العدالة الشاملة أثناء
فترات الانتقال السياسي. ومفهوم العدالة الإنتقالية يتكون من عنصرين:
تحقيق العدالة، ومن ثم الإنتقال الى المستقبل بروح جديدة وبمفاهيم
راسخة تحترم حقوق الإنسان.
الشروع بتنفيذ العدالة الانتقالية في البحرين يتحقق من خلال:
سيادة القانون: ويشمل الإصلاح القضائي والدستوري وقوانين الانتخابات،
اضافة الى تعزيز مبدأ فصل السلطات؛ وتأكيد المشاركة الشعبية السياسية؛
واحترام حرية الإعلام؛ وتطبيق نظام المحكمة الدستورية.
تحقيق المصالحة الوطنية: إن فكرة (المصالحة الوطنية) تمثل جزءً
من برنامج (العدالة الإنتقالية)، وجهداً أساسياً يرمي إلى إرساء السلم
الأهلي، والثقة الوطنية بين الخصوم القدامى، في سياق من العدالة والمحاسبة
والإنصاف لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. لذا يجب وضع الأسس اللازمة
التي تتم عبرها المصالحة الوطنية.
إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية: ويترتب عليه تدريب قوات الشرطة حسب
استراتيجية الدولة الجديدة الحامية لحقوق الإنسان، ووضع معايير للمساءلة
والمحاسبة الإدارية والقانونية التي ينبغي أن تخضع لها أجهزة الأمن
المختلفة.
مواصلة التنمية السياسية والتوعية المدنية: وذلك عبر سياسات تستهدف
بناء مجتمع مدني ديمقراطي نابض بالحياة.
إصلاح الإعلام، والنظام التعليمي: من أجل بناء ثقافة وطنية تعزّز
اللحمة الداخلية، وتحاصر الإنشاقاقات المجتمعية.
من الصعب حصر الخطوات كافة التي لابد على المجتمع البحريني تنفيذها
لتطبيق العدالة الانتقالية، واعتقد ان أولى الخطوات وأهمها على الإطلاق:
البدء الفعلي بتنفيذ التوصيات التي جاء بها تقرير السيد المستشار بسيوني،
مع ضرورة إطلالة على تجارب الآخرين وخاصة العربية منها، واقتران التنفيذ
بحسن النية للوصول إلى مجتمع بحريني تحترم فيه حقوق الإنسان.
في ضوء التغيرات والتحديات الراهنة في البحرين، فإن الخطوات التي
تشكل خارطة طريق للوصول للعدالة الانتقالية في البحرين، لا بد ان ترتكز
على خمسة عناصر، تعمل وفق رؤية متكاملة، وهي تتمثل في:
- الوصول إلى محاكمات عادلة، وتدلل على أهمية ذلك التوصية الورادة
في تقرير بسيوني حيث أوجب ان تكون هذه التحقيقات قادرة على أن
تؤدي الى إحالة مرتكبي الإنتهاكات الى المحاكمة، سواء كانوا مرتكبين
مباشرين أو مسئولين عنهم، إذا جاءت نتيجة تلك التحقيقات بأنه كان
هناك خرق للقانون .
- البحث عن الحقيقة وتقصيها، وهذا ما فصّله تقرير بسيوني في
صفحات عديدة في يوميات الأحداث التي جرت في فبراير ومارس 2011.
- التعويض وجبر الضرر (سواء من خلال التعويض المعنوي أو العيني
أو إعادة التأهيل)، واتضح ذلك من خلال الإعلان عن صندوق التعويضات
للمتضررين من الأحداث الأخيرة الصادر بالمرسوم الملكي رقم 30 لسنة
2011.
- الإصلاح المؤسسي، بما في ذلك الإصلاحات القانونية والمؤسسية،
وإزاحة مرتكبي التجاوزات عن المناصب العامة، وتدريب الموظفين العموميين
على احترام وتنفيذ المبادئ والقوانين المتعلقة بحقوق الإنسان.
- إحياء (الذاكرة الجماعية) لمنع تكرار الانتهاكات مستقبلاً،
وتعزيز المبادرات المجتمعية.
يمكن اعتبار ما قامت به حكومة البحرين من إجراءات (محاكمات وتعويض
وإصلاح) خطوة أولى باتجاه تحقيق العدالة الانتقالية التي يجب أن تبدأ
بتنفيذ فعلي وحقيقي لما تبقى من توصيات اللجنة البحرينية المستقلة
لتقصي الحقائق من غير مماطلة أو تسويف، في خطوات واضحة وضمن خطةٍ زمنيةٍ
معلنة.
إن تنفيذ الحكومة البحرينية ما جاء بتقرير السيد بسيوني ابتداءً
من عودة المفصولين، ووصولاً إلى الإفراج عمن عبَّر عن رأيه في نطاق
حدود حرية التعبير المكفولة دستورياً، وانتهاءً بمحاكمة من ثبت تورطه
في تعذيب المعتقلين أو كان سبباً في إزهاق أرواح مواطنين، سوف يشكل
رافعة أساسية يمكن من خلالها الانتقال من المرحلة الانتقالية بسلامة
بحيث تؤسس لمرحلة سياسية وقانونية وتشريعية جديدة.
بناءاً على ما تقدم، هناك جملة من التوصيات الضرورية لتفعيل العدالة
الإنتقالية:
أولاً ـ ضرورة تعزيز فرص الوصول إلى العدالة الانتقالية كمدخل للوصول
إلى دولة يحترم بها الإنسان وحقوقه وحرياته، وعلى المعنيين من (قوى
وأفراد) التحرك الفاعل في تعزيز استقلال النظام القضائي، وفصل السلطات،
وإعادة بناء النظام السياسي على أسس ديمقراطية تكفل شراكة الجميع،
وتضمن تفعيل مؤسسات الرقابة والمحاسبة.
ثانياً ـ إن احداث الماضي والحاضر في البحرين وما يحملانه من جراح
وانتهاكات، تفرض البدء فوراً بالحلول وعدم المماطلة، كما تحتاج إلى
(صحوة ضمير)، والى قرار استراتيجي ينقل البلد إلى مرحلة أخرى، ليس
فقط لتضمد جراح الماضي، بل أيضاً للتأسيس لعهد جديد يكون من أكبر إنجازاته
احترام حقوق الإنسان.
ثالثاً ـ ولكي نصل لبدء تطبيق العدالة الانتقالية، وبما يضمن تطبيق
توصيات تقرير بسيوني، فإنه لا بدّ أن تطوّر وتفعل المؤسسة الوطنية
لحقوق الإنسان، بحيث تعمل من خلال برامج علمية وخطط عمل واقعية ومدروسة
على مناهضة أشكال التمييز والتهميش مهما كان صغيراً، وتعزيز قيم المواطنة
كإطار للحقوق والواجبات، وتقديم مقترحات حول الإندماج السياسي من خلال
المشاركة في صناعة القرار عبر المؤسسات الوطنية والدستورية. وكذلك
كيفية تحويل الحقوق الإقتصادية والإجتماعية إلى واقع معاش.
رابعاً ـ ضرورة تفعيل دور المنظمات الأهلية البحرينية في مجال العمل
الحقوقي ونشر أسس تطبيق نظام العدالة الانتقالية بشكل يراعي السياق
الإجتماعي البحريني، وبحيث يشكّل إرادة مجتمعية وسياسية تفتح البحرين
على عالم جديد.
|