(حقوق الإنسان) وذرائع التدخل الأجنبي

تأثرت العلاقات البحرينية/ الأميركية سلباً خلال الأشهر الماضية، وكان موضوع (حقوق الإنسان) المحور الأساس فيها، والذي بسببه سمعنا وقرأنا تصريحات أميركية خشنة عن الوضع المحلّي؛ كما قرأنا وسمعنا في الوسط الصحافي والسياسي في البحرين انتقادات لاذعة وغير مألوفة، تندّد بالولايات المتحدة الأميركية، وتدخلها المباشر في الشأن الداخلي البحريني، واتهامها بالتآمر على نظام الحكم، وانحيازها لفئات إجتماعية محدّدة، وغير ذلك.

بوزنر في لقائه مع وزير الخارجية

غرض هذه المقالة هو توضيح نقاط ذات أهمية ولها صلة جوهرية بموضوع حقوق الإنسان، قد لا يلتفت اليها بعض اللاعبين السياسيين، ولا القيادات الدينية والروحية، ما يجعلها تنظر بعين الريبة الى أية تصريحات نقدية تتعلق بالشأن البحريني. من بين هذه النقاط التالي:

أولاً ـ يغيب عن نظر البعض، حقيقة ذات أهمية تتعلق بمفهوم سيادة الدولة على أرضها وشعبها، كما تتعلق بمبدأ في العلاقات الدولية يؤكد على (عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى). لقد طرأ تحوّل من الناحية العملية على هذا المفهوم. فقد اصبح التدخل في شؤون الآخرين أمراً واقعاً، ومشرعنا، بل ومألوفاً، بناء على اتفاقيات دولية أخرى تتعلق بحقوق الإنسان، والتطور في القيمة الإعتبارية لها، وإلزامية تلك الحقوق بحيث أصبحت تضغط على كل الدول الموقعة على مواثيق حقوق الإنسان الدولية. لم يعد مقبولاً في العلاقات الدولية أن تمارس الدولة ـ أية دولة ـ ما تريده بحق شعبها، وتعتبر ذلك من شأنها الخاص، وبالتالي تنتظر صمتاً دولياً. هذا لم يحدث حتى مع الدول الكبرى كالصين وروسيا، ولا يُنتظر أن يحدث مع الدول الأخرى. أصبح موضوع حقوق الإنسان (شأناً عالمياً) وليس (شأناً داخلياً محضاً).. وأصبح تلك الحقوق مادّة أساسية مؤثرة في العلاقات الدولية.

وكما ذكرنا، فإن التدخل صار حقيقة ـ كما نرى في أكثر من دولة ـ الى حد إصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي، تفوّض باستخدام القوة العسكرية، ضد نظم تعتدي بقسوة على حقوق مواطنيها، كما في ليبيا. هذه المسألة يجب أن لا تغيب عن بال الفاعليات السياسية واصحاب القرار. فالإحتجاج على التدخل الخارجي، في موضوع حقوقي، لم تعد له ـ شئنا أم أبينا ـ أّذُنٌ سميعة في عالم اليوم. وبالتالي لا بدّ من مقاربة أخرى، ولغة خطاب آخر، في التعاطي مع الدول المنتقدة لسجل حقوق الإنسان في بلداننا. إن مقولة: (ما لكم شغل بنا، هذا شأن داخلي)، أو (نحن أعرف بشؤوننا)، لا قيمة مهمة لها!

ثانياً ـ واضح من خلال التجربة البحرينية، وغيرها أيضاً، أن موضوع حقوق الإنسان، هو موضوع رئيس في العلاقات بين الدول، سواء كانت عدوّة أم صديقة أم منافسة. وإن مفردة (حقوق الإنسان) يمكن استخدامها من قبل أيّة دولة ضد أخرى. حتى الولايات المتحدة، هناك من يعرّض بسجلها الحقوقي، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان في أكثر من مكان في العالم؛ ولسنا بعيدين زمنياً عن قضية سجن ابو غريب ولا سجن غوانتنامو، ولا عن التقارير الدولية السنوية التي تفرد صفحات مطولة عن سجل أميركا الحقوقي.

ليس استخدام مفردة (حقوق الإنسان) من قبل دول كبرى كأداة لانتقاد البحرين أمراً جديداً، حتى ولو كانت تصنّف في خانة الدول الصديقة. هناك العديد من الدول، لا تريد أن تصنّف نفسها في خانة الداعمين لمنتهكي حقوق الإنسان، فذلك يؤثر على سمعة الدولة المعنية نفسها، وعلى مصالحها، ومكانتها في الساحة الدولية.

ولأن موضوع حقوق الإنسان صار واحداً من معايير العلاقات الدولية؛ مثلما هو سلاح للتدخل في شؤون الدول الأخرى، فإن المنتقدين يمكن أن يُنتقدوا أيضاً وعلى ذات القاعدة. هذا مجال مفتوح. وبالتالي، فإن من الضروري أن تقفل الدول هذه البوابة من النقد الحادّ أو الناعم، وذلك عبر التقيّد بالمواثيق الدولية التي وقعت عليها، أو أن تتحمّل النقد وتمضي قدماً في انتهاكاتها، وتعرّض سمعتها وعلاقاتها الدولية الى التدهور.

الثالثة ـ من المؤكد أن موضوع حقوق الإنسان، ومهما أراد المرء أن يجرّده من خلفياته السياسية، فإنه لا يستطيع. لكنه ـ أي موضوع حقوق الإنسان ـ مستقلّ بذاته، وله كينونته الخاصة، وهناك من يحسن استخدامه والإستفادة منه، لأغراض نبيلة، أو حتى لأغراض الإبتزاز السياسي، كما هو واضح في دول عديدة. لكن هذا النوع من الإبتزاز السياسي، رغم رفضنا له، لا يعني القبول بالإنتهاكات بادئ ذي بدء. فالأصل هو احترام حقوق الإنسان، وأما استغلال الموضوع من قبل آخرين، فإنه مجرد نتيجة لمرض أو مشكلة أو خطأ، يجب تصحيحه. وهذا ما يفترض أن يهمنا بالذات. فلكي نمنع الإستغلال، ونحدّ من التدخل الخارجي في شؤوننا، فإن علينا أن نصلح أوضاعنا الحقوقية، حتى لا نفتح النوافذ والأبواب ونقدم الذرائع لمن يريد أن يستغلّ ذلك، ربما لأهداف لا علاقة لها بحقوق الإنسان.

الرابعة ـ من المهم إدراك العصر الذي نعيشه اليوم. هناك شرق أوسط جديد يتشكل بخصوصيات محلية، أي أنه ليس نسخة من الغرب، وهو مدفوع بقوّة شعبيّة شبابية تختلف في رؤيتها وتطلعاتها عن الجيل الماضي. هذا الجيل المندفع يتطلّع للديمقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية في الحكم، ويتسلّح بأدوات العصر وتكنولوجيته الحديثة في الإتصال والتواصل. وهنا يبدو من العبث إغلاق خيارات الإصلاح، وإغلاق الأفهام عن العالم الذي يتشكّل من حولنا. نحن جزء من هذا العالم الذي يتشكّل، ونحن معنيّون بحفظ الإستقرار والأمن وفي نفس الوقت بتلبية التطلعات المشروعة لشعوبنا، وعلينا احترام خيارات الجمهور وترشيده، وليس الإلتفاف عليه وتحوير اهتمامته وإشباع جانب من رغباته (جوانب الرفاهية المعيشية) فحسب. ذلك أن مثل هذا الإشباع الجزئي ـ الذي هو حقّ هذا الجيل الجديد ـ لا يلغي تطلعاته السياسية. نحن بحاجة الى عقليّة تفهم هذا الجيل، وتدرك متغيرات العصر، وتحولات المفاهيم، في منطقتنا والعالم، حتى نستطيع التعاطي معها بخطاب عقلاني، وبرؤية رشيدة، تبني وطناً حرّاً وكريماً ومستقلاً ومستقراً ومحترماً.

هذا هو التحدّي الذي يواجهنا. وأما ما يثار من جدل في البحرين اليوم حول التدخل الأجنبي، فما هو إلا انعكاس لضبابية الرؤية، والجمود في مناقشة التطورات اللحظية. ليس أمامنا ونحن نوجه النقد العارم لواشنطن في الصحافة المحلية لتدخلها في الشأن الداخلي البحريني، سوى واحد من حلين: إما أن نصلح أوضاعنا الحقوقية ونسحب ذرائع النقد والتدخل؛ وإما أن نستمر في ارتكاب الأخطاء ونسيء لسمعتنا، ونعرّض علاقاتنا بحلفائنا وأصدقائنا للمخاطر. وسواء كان تدخل واشنطن أو لندن أو باريس أو بروكسل، عبر النقد والضغط السياسي، بدوافع قيمية وأخلاقية، أو بدوافع مصلحية، أو بغرض الإبتزاز، فإن ذلك لا يزيد من الخيارات أمامنا، لمواجهة هكذا نوع من التدخل.

ليس هذا دفاعاً عن الموقف الأميركي، وإنما محاولة لفهمه، بما يفيد طريقة تعاملنا مع قضايانا الحقوقية. كان مساعد وزير الخارجية الأميركية مايكل بوزنر، رابع مسؤول يزور البحرين أثناء أزمتها، وقد عقد مؤتمراً صحافياً بالمنامة في 15/6/2011، أكد فيه على تحالف بلاده مع البحرين على اساس المصالح السياسية والإقتصادية والأمنية المشتركة. وقد أبدى قلقه ـ باعتباره صديقاً للبحرين وشعبها، كما قال ـ من قضايا مثيرة تتعلق بحقوق الإنسان، واعلن استعداد بلاده لمساعدة البحرين في تجاوز أزمتها. ولكنه في المقابل، أدلى بتصريحات صريحة قال فيها بأن تحقيق الأمن واحترام حقوق الإنسان أمران لا يتعارضان؛ وانتقد فصل بعض الطلاب والعمال والصحافيين واستمرار الإعتقالات وسوء المعاملة للمحتجزين، وطالب بالإلتزام بالقانون المحلي والمواثيق الدولية. وأيد بوزنر قيام حوار وطني، ولكنه شدد على تهيئة أجوائه ومشاركة الجميع فيه. وانتقد نشر رسائل الكراهية في وسائل الإعلام المحلية، ورأى ان ذلك يزيد من حالة الإنقسام في المجتمع لسنوات طويلة، وقد يؤدي الى العنف.

مثل هذه التصريحات اعتبرت تدخلاً مباشراً وسافراً في الشأن المحلي، ووجه بعض كتاب الصحف وأعضاء برلمان سيلاً من النقد والإتهام للمسؤول الأميركي، بأنه يسعى لإفشال الحوار، وقال نائب برلماني (15/6/2011): (لا نريد مسؤولين أجانب‮ ‬يتدخلون في‮ ‬شؤوننا،‮ ‬فهم بدلاً‮ ‬من المساعدة على نجاح التوافق الوطني‮ ‬يمارسون أعمال التجييش والتصعيد للأوضاع... ‬بوزنر‮ ‬يقابل من‮ ‬يريد، ويدخل البيوت، ويتدخل في‮ ‬عمل السلطة القضائية)‮. وزاد: (بعض المسؤولين الأمريكان‮ ‬يتصرفون في‮ ‬شؤون البحرين وكأنما هي‮ ‬دولة واقعة تحت الاستعمار وليس لها سيادة.. ‬كيف‮ ‬يسمح للمسؤول الأمريكي‮ ‬المكوث في‮ ‬البحرين‮ ‬4‮ ‬أيام وكأنما‮ ‬يحقق في‮ الأحداث؟).

وقالت كتلة نيابية (14/6/2011): الولايات المتحدة تريد أن تقدم البحرين كبش فداء لوجودها بالعراق: (البحرين تحررت من الاستعمار منذ أربعة عقود، وهي دولة مستقلة ذات سيادة، ولا نقبل بأي حال من الأحوال أن تفرض الوصاية عليها مجدداً).

مثل هذا الخطاب تكرر على لسان العديد من الكتاب والأحزاب السياسية. بيد أن الخطاب الرسمي البحريني عامة، كان راشداً وناضجاً ومدركاً لطبيعة وتأثير موضوع حقوق الإنسان في العلاقات الدولية، خاصة ما عبرت عنه تصريحات ولي العهد ووزير الخارجية. وفي هذا الموضوع بالتحديد، رحبت وزارة الخارجية، على لسان وكيلها، السفير عبدالله عبداللطيف بتصريح بوزنر وتأكيده (على الشراكة الوطيدة التي تربط البلدين الصديقين، وترحيب حكومة الولايات المتحدة بالدعوة لبدء حوار شامل للتوافق الوطني، وخلق الأجواء المناسبة لانطلاقه، وما واكبه من تطورات ايجابية تساهم في خلق المناخ المناسب للبدء فيه، الأمر الذي يضمن مشاركة الجميع دون قيد أو شرط، مما يؤكد الحرص التام والالتزام بثوابت النهج الإصلاحي، وضمان تعزيز الحقوق والحريات التي كفلها دستور المملكة). وأضاف بأن (الجميع يتفق على أن لغة الحوار وخلق الأجواء المناسبة له من قبل جميع الاطراف المعنية، هو السبيل نحو تحقيق الطمأنينة والاستقرار، بما يكفل حرية العيش الكريم والرفاه والتعايش السلمي الذي يتطلع إليه جميع المواطنين والمقيمين على أرض المملكة).