رقابة.. ولكن بدون محاسبة!

الرقابة المالية والإدراية تتضاءل قيمتها إن لم يتبعها مبدأ المحاسبة.

لقد صدرت سبعة تقارير غاية في التفصيل والشفافية والدقة من قبل ديوان الرقابة المالية والإدارية الذي تمّ تأسيسه عام 2003، والذي أصدر آخر تقاريره شهر ديسمبر الماضي، فجاءت معلوماته صادمة للرأي العام من جهة الهدر الكبير للمال العام والفساد المتنامي والمخالفات الإدارية التي شملت كافة الوزارات والأجهزة الحكومية تقريباً.

إن نشر نص التقرير المطول في الصحافة، والسجال الكبير الذي أثارته محتوياته، لا شك حمل فوائد كثيرة للمجتمع البحريني، من جهة تعريفه بطبيعة الفساد القائم في أجهزة الدولة، وحجم ذلك الفساد، وطرق مواجهته ومكافحته، والتعرف على العقبات التي تكتنف ذلك.

لا شك أن المواطن سمع وقرأ عشرات التصريحات التي تدين الفساد والمفسدين، وتدعو الى محاربته.. لا يختلف في ذلك من هم في هرم السلطة ولا أولئك الذين في قاعدتها.. كما لا يختلف الموقف بين البرلمانيين ولا الصحافيين، ولا كتاب الرأي والأعمدة. الجميع يدين التجاوز والإعتداء على المال العام، ويدعو الى التشدد في محاربة أساطينه.

لكن كثيرين التفتوا الى حقيقة أن ما احتواه التقرير الأخير من مخالفات، تتكرر كل عام، وأنه لا توجد جهة (ربما) يبدأ عملها بعد أن يصدر التقرير السنوي الرقابي مباشرة، فيحاسب ويحاكم ويصلح الأوضاع حتى لا تتكرر.

ديوان الرقابة المالية والإدراية هو مؤسسة نشأت في عهد الإصلاح، ووجد لتعزيز المسيرة الإصلاحية والديمقراطية. وفعلاً فقد ساهم الديوان في تنوير الرأي العام المحلي بقضايا الفساد، ووفّر لنواب الشعب كافة المتطلبات والأسلحة لمواجهة تغوّل ظاهرة الفساد. ومن هنا لا غرابة أن نجد تقريظاً ومديحاً كبيراً لتقارير ديوان الرقابة المالية من مختلف الجهات.

الحكومة من جانبها احتفت أيضاً بالتقرير، ابتداءً من جلالة الملك ورئيس الوزراء وولي العهد، وعدد من الوزراء الآخرين الذين أطلقوا تصريحات في هذا الشأن.

ولكن يبقى تساؤل مهم طالما أثار الجدل في الصحافة المحلية بين البرلمانيين وأصحاب الرأي: ماذا بعد التقرير؟ وهل يكتفى بالرصد والرقابة؟

ها قد عرف الجمهور بواقع الفساد والتجاوزات المالية والإدارية في البحرين، وهذا أمرٌ مهم. الخطوة الأهم هي في تفعيل البنية الإدارية والتشريعية بحيث تكون قادرة على القيام بالمرحلة التالية: أي مرحلة مواجهة التجاوزات والمتجاوزين، وتصحيح الأخطاء حتى لا تتكرر.

المحاسبة والتصحيح هي الخطوة التالية. فمن هي الجهة المخوّلة لتطبيق توصيات ديوان الرقابة؟

هل هو مجلس النواب ـ الذي عبّر عدد من أعضائه عن صدمتهم من التقرير ـ باعتباره جهة تشريعية ورقابية، على الحكومة ومؤسسات الدولة؟ هل يمكن مثلاً أن يستدعي النواب الوزراء المتجاوزين ويحقق معهم كما طالب أكثر من عضو؟

هل الحل في إيجاد مؤسسة أخرى مثل: الهيئة العليا لمكافحة الفساد، كما تطالب بعض مؤسسات المجتمع المدني؟

أم هل يكون الحل في إيجاد لجنة مشتركة من مجلس الوزراء والبرلمان تتابع تطبيق توصيات ديوان الرقابة، وتحاسب من يتكرر منهم التجاوز والأخطاء؟

ما يمكن الخلوص اليه هنا هو التالي:

■ مراقبة ورصد أوجه المخالفات المالية والفساد الإداري مسألة مهمة، وهذه القضية قد أُنجزت، حيث لا توجد هناك حساسية رسمية من تحديد مواقع الزلل والخطأ بين مؤسسات ورجال الدولة، ونشرها على الملأ العام، كما هو واضح في التقرير الأخير للرقابة المالية.

■ لا يبدو ـ من خلال رد الفعل الرسمي ـ أن هناك مشكلة في محاسبة المسؤولين المتجاوزين، وإنما المشكلة تكمن في غياب الآليات لذلك.

■ ما كشف عنه التقرير من تجاوزات مهولة، يعني أن هناك جدية حكومية في مكافحة الفساد المالي والإداري، وإلا كان يمكن تغطية الكثير من التجاوزات كما تفعل بعض الدول. حجم الفساد المعلن عنه وإن كان مقلقاً إلا أنه يطمئن من جهة أن هناك استعداداً رسمياً وشعبياً لاتخاذ خطوات في مواجهته.

■ المشروع الإصلاحي جاء بسلسلة من الإصلاحات مترابطة ويصعب تفكيكها أو الإستغناء عن بعض أجزائها. فلا يمكن مثلاً مكافحة الفساد بدون تشريعات، وبدون مجلس نواب قوي، وبدون رأي عام حرّ، وبدون مؤسسات مجتمع مدني حيّ.. ولقد رأينا كل هذه الجهات قد عبّرت عن مواقفها بأفضل التعبيرات وأقواها. وعليه فإن مكافحة الفساد هي جزء لا غنى عنه في عملية الإصلاح السياسي. ونظن أنه قد آن الأوان لاتخاذ خطوات صارمة بشأنه.