الطائفية: الحكومة، النخب، ومؤسسات المجتمع المدني

من غير الممكن إلغاء الروح الطائفية، فهذه مهمّة تفوق قدرة أيّة دولة. ولكن يمكن خفض حدّتها، وتنظيم الاختلاف الطائفي وضبطه. وهذا الأمر لا يمكن ان تقوم به الحكومة ـ كما في البحرين ـ بمعزل عن القوى السياسية والاجتماعية الأخرى.

هنا يمكن إيراد بعض التصورات والمحددات والأفكار التي يفترض ان تضطلع بمسؤوليتها الجهات المعنية.

دور الحكومة: الحكومة مسؤولة عن ضبط الخلاف المذهبي ضمن محدد أن لا يتحول الى صراع اجتماعي. بمعنى أنها مسؤولة ومطالبة بالتدخل بالصورة التي تراها، لتمنع انزلاق المجتمع الى فتنة لا تحمد عقباها، بسبب قضية جزئية هنا أو هناك. وهذا يعني انها مطالبة بوضع التشريعات التي تجرم العمل الطائفي، وتضع قوانين محاسبة رادعة لمن يثير الفتنة، كما عليها ضبط المنابر الدينية والاعلامية بقوانين تضمن بها عدم الإثارة، وتقدم ذلك الى البرلمان لمناقشتها وإقرارها بعد أن يبدي رأيه فيها.

الحكومة مسؤولة أيضاً عن حيادية أجهزتها ورجالها عن الصراعات والممارسات الطائفية، وإلا أصبحت جزءً من الصراع نفسه، وبذا تفقد أبويتها، وقدرتها على تمثّل دور الحَكَم بين المختلفين، وكونها عامل التوازن الاجتماعي والسياسي. دور الحكومة هو (تنظيم الاختلاف الطائفي وضبطه بموازين القانون) ولا يتم هذا إلا عبر تحصين مؤسسات الدولة من السلوك الطائفي، والتشديد على المسؤولين والموظفين بعدم الانحياز الطائفي بأيّ صورة من الصور.

والحكومة مطالبة في نفس الوقت بالإستمرار في احترام حرية التعبير الديني، وباحترام القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان، ولا يجوز ان تتحول عمليّة الضبط الى قمع او ارتداد عن المبادئ العامة التي جاء بها الميثاق والمشروع الاصلاحي. خاصة وأن فسحة الحرية وسيلة من وسائل ضبط الطائفية وخطابها ومثيريها، وليس العكس، فالتعسف يؤدّي الى نتائج عكسية ويزيد من لهيب الطائفية.

والحكومة تتحمل مسؤولية إيجاد البرامج لتقريب وجهات النظر المختلفة، ووضع المشاريع فوق المذهبية/ الوطنية التي ترسخ حالة الاستقرار والاندماج الاجتماعي والسياسي، بحيث تكفل السلم المجتمعي، ومبادئ المساواة. والحقيقة فإن الملك قام بمحاولات عديدة في هذا الاتجاه، وقد جمع رجال الدين والسياسيين والبرلمانيين من الطائفتين مراراً، ووضعت الدولة عدداً من البرامج المشتركة، لكنها للأسف لم تعط ثماراً حقيقية حتى الآن، بسبب الانسحابات من هذا الطرف او ذاك، حيث يعود كل منهما الى الانكفاء على ذاته وطائفته. ولكن لنا أملٌ كبير، بأن تنضج الساحة السياسية والدينية عامّة، ونحن نراهن على نضوج التجربة ورجالها، بما يجعل الشخصيات الدينية والسياسية رجال وحدة وطنية بحق، لا أن تتسرّب من بين أيديهم وأفواههم الإشارات والمشاعر الطائفية البغيضة.

دور النخب السياسية والدينية: الطائفية حالة نخبوية وهي التي تغذّي الجمهور بمشاعر القلق الطائفي المفتعل؛ وأغلب الإنشقاقات والانفلاتات كما لاحظناها في السنوات الأخيرة، سببها النخبة وليس الجمهور الذي هو بسيط ومندمج لولا الهيمنة العليا من قبل تلك النخب. يلاحظ أن هذه الأخيرة فشلت في إيجاد مؤسسات مشتركة اجتماعية او خدمية أو سياسية أو بيئية او دينية. هذا يمثل وجهاً من أوجه القصور العديدة في النخبة البحرينية التي اخترقتها الروح الطائفية ـ وإن زعمت أنها ليست طائفية. من المعيب أن تتعزّز الفواصل في السكن غير المختلط، والأحياء غير المختلطة؛ ومن المعيب أن الزواج المختلط يأخذ وجهة تراجعية في ظل التعددية والانفتاح والحريات، بدل أن يزداد، فتتسع وشائج العلاقة بين الطرفين الشيعي والسنّي. ومن المعيب أيضاً، أن الجمعيات الخيرية تحصر خدماتها في بعض السكان دون البعض الآخر، بلا مبررات دينية ولا إنسانية.

يمكن القول بأن النخب البحرينية الدينية والسياسية والاجتماعية لم تنضج بما فيه الكفاية، ما يجعلها بحاجة الى توجيه مستمر من قيادة الدولة، ومن تدخل الحكومة ـ غير المحبّذ ـ لتدفعها باتجاه عقلنة الشارع وضبط تصرفاته، بدل ان تظهر لنا بمواقف من تحت قبة البرلمان أو بتصريحات من خلال وسائل الاعلام والصحافة لتزيد من الانشقاقات الاجتماعية.

كما أن البرلمان ـ الذي يمثل اعضاؤه نخبة المجتمع ـ مسؤول عن ضبط نوابه عبر لوائحه الداخلية. وفي الحقيقة لم تكن تجربة النواب في التسامي على الانقسام الطائفي ناضجة، حيث وجدنا الخطاب الطائفي يفوح من بعض النواب صراحة، كما أن المصالح الفئوية والطائفية طغت على الرؤية العامة لمستقبل البحرين وأهلها والتي تفترض تقوية الحس الوطني وتعزيز اللحمة بين المواطنين، واعتبار الجميع في سفينة واحدة اذا ما خرقها أحدهم فإنه يكون قد هددهم بالغرق.

دور مؤسسات المجتمع المدني: التطييف حالة قابلة للإستشراء، في حلقات مترابطة. الخطاب الطائفي في البرلمان، ينعكس على الصحافة والشارع، والطائفية في مؤسسات المجتمع المدني قد تغيّب حتى الروح والمشاعر الانسانية كما في الجمعيات الخيرية. وطائفية الخطاب الديني تؤثر في الخطاب السياسي وتجعله طائفياً، وهكذا.

بيد أن مؤسسات المجتمع المدني بالذات ينظر اليها عادة على أنها بعيدة عن التقسيمات الطائفية والعرقية، وأن دوافعها إنسانية/ وطنية محضة، وبدون ذلك تفقد مبررات وجودها. ولقد وجدت للأسف بعض المؤسسات الحقوقية من يعتمد الخطاب الطائفي كنهج ثابت ومستمر، في بياناته وأدبياته واستراتيجيته.

إن التخلي عن الخطاب الطائفي، دليل نضج الفرد والمجتمع، ونضج الجهة التي تمارسه دولة أو حزباً أو جمعية أو وسيلة إعلامية. إن هذا التخلي هو المطلوب كحدّ أدنى في هذه المرحلة، على أمل أن تتبعها خطوة أخرى تتمثل في المشاريع والمؤسسات المشتركة. نحن نطمح الى يوم توجد به جمعيات سياسية تمثل المواطنين من مختلف المذاهب، والى جمعيات خيرية تقدم خدماتها الانسانية الى كل المواطنين، والى مؤسسات مجتمع مدني يساهم فيها الجميع وتخدم الجميع.