أهميتها ومعوقاتها..
ثقافة حقوق الإنسان في البحرين
تعتمد حماية حقوق الإنسان على آليات عديدة، من بينها اعتماد آلية
نشر ثقافة حقوق الإنسان وتربية النشء الجديد والمجتمع عليها، وعلى
ممارستها على أرض الواقع. وبالرغم من الصعوبات التي تعترض بعض المجتمعات
في تقبل ثقافة حقوق الإنسان، فإن الأخيرة أصبحت ثقافة عالمية لا يستطيع
أي مجتمع التحرّر من آثارها، كما لا تستطيع أية دولة تجاوزها بشكل
صارخ سواء في محيطها الوطني أو في محيط علاقاتها الإقليمية والدولية.
المجتمعات العربية عامّة، قد تكون من أقل المجتمعات في العالم امتصاصاً
أو حتى تقبّلاً لثقافة حقوق الإنسان، ولربما يعود الأمر الى أسباب
عديدة، بعضها يرجع الى التراث السياسي الإستبدادي الذي لازال حاكماً
على الثقافة العربية، وبعضها قد يعود الى حقيقة أن المنتج الثقافي
الحقوقي ـ وإن اتخذ صفة عالمية ـ هو منتج قادم من بيئة مغايرة، وقد
تكون البيئة ذاتها معادية في نظر تلك الشعوب العربية، وبالتالي فهي
ترفض المنتج لأن مصدره معادٍ لثقافتهم الخاصة، كما لطبيعة عيشهم ونظامهم
السياسي. زد على ذلك طابع الريبة والقلق وتضخم روح المؤامرة الذي يحكم
العقلية العربية، والذي يربط بين الثقافة الحقوقية وبين التآمر السياسي.
ومن الأسباب الأخرى ما له علاقة بتطبيقات الثقافة الحقوقية، من
قبل من يراهم المواطن العربي منتجين لها، حيث يتسم التطبيق بالإزدواجية،
وتتحول الثقافة الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان الى أدوات سياسية،
رأينا تطبيقاً سيئاً لها من قبل دول تزعم أنها منافحة عن حقوق الإنسان
والديمقراطية. ويبدو أن الصراع العربي الإسرائيلي، وتورط بلدان غربية
في الصراع لصالح إسرائيل، قد شكّل مناخاً يعيد العرب والمسلمين عامة
الى التاريخ والثقافة الخاصة للإحتماء من الجور الذي يرون أنهم ضحاياه.
زد على هذا، فإن سيادة الروح الدينية المحافظة، قد وضعت النصوص
الدينية ـ أو بعضها ـ قبالة القيم العالمية التي تبشر بها ثقافة حقوق
الإنسان، حيث رأى العرب أن هناك معايير حقوقية تصطدم مع ثقافتهم الدينية،
وهذا الإصطدام في المعايير بالرغم من محدوديته، إلا أنه أخذ حجماً
أكبر من مسألة التوافق بين النصوص الدينية والمعايير الحقوقية الدولية
التي هي في جوانبها الأعظم متفقة مع روح الدين. لكن القيمين على التفسير
الديني، لم يبذلوا جهداً يعتدّ به في إعطاء تفسيرات جديدة للنصوص الدينية،
كما لم يبذلوا جهداً كبيراً في تكييف معايير حقوق الإنسان مع الثقافة
الدينية الخاصة، وكل ذلك يعود الى ضعف الإجتهاد الديني، وتخلف التفسيرات
للنصوص عن الواقع المعاصر.
لكل هذه الأسباب، وضعت المرجعية الدينية الثقافية قبالة الثقافة
الحقوقية الدولية، إما جهلاً أو تهرّباً من المساءلة السياسية كما
تفعل بعض الأنظمة التي تشير الى مرجعية الدين بغية الفرار من تجاوزاتها
على كلتي الثقافتين الحقوقيتين الدينية والدولية.
لهذا، فإن نشر ثقافة حقوق الإنسان تصطدم بمعوقات بحاجة الى تفكيك،
في المجال الديني، كأن تكون هناك بعض المعايير ـ وهي قليلة ـ مخالفة
لمعايير الدين، أو هي متعارضة مع ثقافة المجتمع وأعرافه، وهنا يمكن
تطويع الأعراف والتقاليد ـ دون فرض ـ خاصة وأن الثقافة (مع إبعاد الموضوع
الديني عنها) كائن حي يتسم بالتحول والتبدّل ولا يتمتع بالقدسية.
لكي تنجح عملية نشر الثقافة الحقوقية، يجب ابتداءً حلحلة مشكلة
(أنها منتج غربي) واعتبارها منتجاً حضارياً إنسانياً ساهمت في صناعته
الإديان والثقافات المختلفة. وثانياً يجب اعتبار الثقافة الديمقراطية
والحقوقية ذات قيمة كبيرة وأداة في تطوير كل بلد وكل شعب، بغض النظر
عن تسييسها من هذه الجهة الدولية أو تلك، أو إساءة استخدام مفاهيم
الثقافة الإنسانية ـ كما في بعدها الحقوقي ـ لضرب هذه الدولة أو تلك.
ذلك أن إساءة الإستخدام لا تلغي صفة عالمية حقوق الإنسان، ولا قيمة
الديمقراطية لمن يطبقها، كما لا تبرر الديكتاتورية وانتهاكات حقوق
الإنسان، ولا تزيّن قبحها اعتماداً على تفسير ديني مزعوم. لا يوجد
دين يبرر الظلم والإستبداد والتخلّف.
ومن جهة ثالثة، يجب استيعاب ثقافة حقوق الإنسان والثقافة الديمقراطية
بشكل عام، ضمن الثقافة الخاصة. وبالنسبة لنا كعرب ومسلمين، لا نجد
أن ثقافتنا الدينية تتعارض مع ثقافة حقوق الإنسان، وهناك من بيننا
من أصدروا مواثيق حقوقية مبنية على الثقافة الدينية نفسها تتواءم مع
المعايير الدولية. الإستيعاب يتطلب جهداً دينياً من جهة التوفيق بين
ما هو مطروح عالمياً، وبين ما هو متبنّى ثقافياً ودينياً، بحيث لا
يطرح أحدهما منفصلاً عن الآخر، أو كأنه نقيض له. بصريح العبارة، يمكن
انتاج ثقافة قائمة على معايير دينية/ اسلامية تتواءم مع ثقافة حقوق
الإنسان العالمية، مع اعتقادنا انها تختلف معها في بعض الجزئيات المحدودة.
ورابعاً، هناك الأدوات والوسائل الصحيحة التي يجب اتباعها في زرع
ثقافة حقوق الإنسان لدى الأجيال الجديدة. فنحن لسنا فقط بعيدين عن
ثقافة حقوق الإنسان العالمية، بل وأيضاً بعيدين عن ثقافتنا الدينية
الحقوقية، فتجد كثيرين يتجاوزون روح الدين ومبادئه ويعتدون على أرواح
وأعراض وحقوق الآخرين دونما رادع. فكيف يكون السبيل لنشر ثقافة حقوق
الإنسان إن لم تتم تربية المجتمع والأجيال الناشئة عليها؟ إن هذا لا
يتم إلا بدخول تفاصيل تلك الثقافة في حياتنا اليومية: في المسجد والمدرسة
وفي النشاط الأهلي والرسمي وفي الممارسة السياسية، وفي الإعلام وفي
البيت مع الزوجة والأبناء، وفي العلاقات الاجتماعية وغيرها.
وخامساً، يتطلب نشر ثقافة حقوق الإنسان، وضع سياسة حكومية بهذا
الشأن، كون الدولة مسؤولة قبل أي أحد آخر، بحيث تلحظ الأمر في خططها
وبرامجها. ولا يكفي التوجه نحو عموم المواطنين فحسب، بل والى جهاز
الدولة نفسه بشكل خاص، وهو المعني أساساً بتطبيق تلك الثقافة ونشرها.
وهنا يأتي تدريب وتعليم رجال الشرطة والأمن، كما الأساتذة والمعلمين،
كما رجال القضاء والدين، كما موظفي الدولة في شتى المجالات.
إن فضح الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومعاقبة المتجاوزين، لا
تغني عن التعليم والتربية الحقوقية، لأن الضمانة الأساسية لحماية هذه
الحقوق هي نشر ثقافتها، حتى لا تقع الإنتهاكات باديء ذي بدء. أي أن
التعليم والتثقيف مسألة مقدّمة على المعاقبة أو على الأقل متوازية
معها، وكما يقال بأن الوقاية خير من العلاج.
لقد أصبح الاهتمام بنشر ثقافة حقوق الإنسان والتربية عليها من أولويات
الهيئات الدولية الحقوقية.. وقد تبلور هذا الاهتمام في عشرية الأمم
المتحدة للتثقيف في مجال حقوق الإنسان، وهي الفترة الممتدة بين (يناير
1995 وديسمبر 2004).
إنَّ المرحلة التي تمر بها البحرين مفصلية لترسيخ حكم القانون والتحول
الديمقراطي المنشود، لذا يأتي دور نشر ثقافة حقوق الإنسان والتربية
عليها في المقام الأول لبلورة مفهوم الممارسة الديمقراطية في الواقع،
ولن يتأتى ذلك إلاَّ عبر إدماج منظومة حقوق الإنسان في مناهج المدارس
والجامعات من جهة، وتفعيل دور الأفراد في معرفة حقوق الإنسان، ومن
ثـمَّ حمايتها بصفتها ضامن أساسي للقرار السياسي ومشاركة الجميع فيه.
بديهي فإن نشر ثقافة حقوق الإنسان يساعد على تأسيس قيم مجتمعية
تستهدف السلوك، وتترسخ في الوعي، وتتجسد عملياً على مستوى الممارسة.
ويتحقق هذا على مستوى الأسرة، ثمَّ المدرسة، فالشارع العام، وأماكن
العمل وبقية المؤسسات سواء كانت خاصة أو عامة. ويكتسب نشر ثقافة حقوق
الإنسان وسط قوات الأمن والجهات المسؤولة عن تنفيذ القانون أهمية خاصة.
فعلى نطاق العالم تحدث انتهاكات حقوق الإنسان من تلك الجهات. ونشر
ثقافة حقوق الإنسان واحترامها وتعزيزها وسط تلك الجهات يساعد على تقليص
حجم الانتهاكات والحد منها، كما يساعد على بناء ثقة الفرد في تلك الأجهزة.
ما تحتاجه البحرين في هذه المرحلة هو تعميق قيم ومباديء حقوق الإنسان
والتي تتمحور حول المساواة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة،
وتعريف المواطن بحقوقه وواجباته، بحيث يؤدي ذلك إلى تعزيز قدراته في
مواجهة دعوات العنف، كما في مواجهة منتهكي حقوقه في الميادين الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية، وتدفعه للعمل الجاد لنيلها.
وتساعد نشر ثقافة حقوق الإنسان البحرين على تقليص حالات المد والجزر
السياسي التي تتسم بها مرحلة الإصلاح. وفي هذا الصدد يمكن التذكير
بتجارب العديد من الدول في مجال نشر ثقافة حقوق الإنسان والتي ساعدتها
على تجاوز مرارات الماضي، عبر إدماج مباديء حقوق الإنسان في مناهجها
التعليمية. وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى أهمية دور منظمات المجتمع
المدني في خلق التوازنات الإيجابية المطلوبة التي تحتاج إليها البحرين،
وتفعيل البرامج الخاصة بنشر ثقافة حقوق الانسان.
في ظل الإنفتاح النسبي في البحرين يمكن التعويل على جهات عديدة
لنشر الثقافة الحقوقية منها وسائل الإعلام المختلفة، المسرح، المؤتمرات
والندوات، البوسترات والرسومات، المسابقات، الدورات التدريبية، المناقشات
الثنائية، النشرات التثقيفية.
وأخيراً، هنالك عوامل عدة تساعد في التغلب على التحديات التي تواجه
مهمة نشر ثقافة حقوق الإنسان منها:
- لا بد من تـوفر الإرادة الحقيقية لجميع الأطراف المعنية وإنْ
تباينت واختلفت أطروحاتها السياسية.
- إعتبار المدرسة الإطار الأساسي لنشر ثقافة حقوق الإنسان إلى جانب
الأسرة والمجتمع.
- إدماج حقوق الإنسان في البرامج التعليمية والمناهج المدرسية والجامعية
المختلفة مع توفير التدريب والتأهيل المناسبين للمعلمين.
ـ إشراك منظمات المجتمع المدني عند وضع البرامج التعليمية.
- المصادقة على العهود والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ومواءمة
القوانين الوطنية لتتماشى مع القوانين الدولية.
|