حتى لا يخنقنا (الفساد)

لا شيء يقضي على الدول ويقصّر عمرها مثل الفساد. إنه غول يلتهم كل ما ومن حوله، حتى من يعتقد أنه منتفع منه.

ليست المشكلة في أصل وجود الفساد، ذلك أن إلغاءه مستحيل، ولا توجد دولة أو مجتمع في العالم يخلو من الفساد. المشكلة الحقيقية تكمن في (حجم الفساد) وفي القدرة على السيطرة عليه. ولذا فما نتحدث عنه هو السيطرة على الفساد ضمن الحدود الممكنة، لئلا يتمدد كالسرطان فيهلك المجتمع والدولة معاً.

والفساد نقيض للصلاح، وللإصلاح. وبما أننا نتحدث في البحرين عن (الإصلاحات الشاملة) فإننا وبلا شك لا بدّ وأن نتحدث عن الفساد، وهو أمرٌ أكبر من أن يكون متعلّقاً بالموضوعات المالية، بل يتعداها الى كل جوانب الحياة السياسية والثقافية والقضائية والإعلامية والإدارية وغيرها.

ومع أن المجتمعات تميل الى تنميط الفساد وحصره في الموضوع المالي، لكن يستحيل أن يبقى الفساد محصوراً في مكان واحد (دائرة المال فقط)، فالسرطان لا بد وأن ينتشر الى ما حوله من أجهزة وأفراد ومؤسسات، فيفسد الذمم، والقضاء، والأمن، والثقافة، وحتى الأفراد العاديين، فيستوطن في كافة الأماكن وفي النفوس والعقول.

وإذا كان من الصحيح توصيف الفساد كخطر على المجتمعات، فلأنه ابتداءً يلتهم إمكانات الدولة، بحيث تصبح معه غير قادرة على الإيفاء بمتطلبات أبنائها وحاجاتهم الأساسية؛ وبالتالي يؤجج الفساد من النقمة على النظام السياسي والقائمين عليه، فيفقد شرعيته، وتزهد فيه النفوس، وربما يشجّع المواطنين على مواجهته والعمل على إسقاطه، أو في أقلّ الأحوال يولّد التوترات السياسية والأمنيّة، كما هو حاصل في كثير من بلدان العالم.

والفساد بطبعه ينتج ثقافة تدعمه، فترى الجميع يشتم في الفساد والمفسدين، ولكن ربما كان كثير من الشتّامين متورطين في الفساد بنحو أو بآخر، أو ربما كانوا مبررين له، كأن يقال مثلاً: نعم هؤلاء المسؤولون مفسدون، ولكنهم متخمون، وإذا ما تمّ تغييرهم فسيأتي مفسدون جياع يكونون أكثر فساداً من سابقيهم! أو الى حدّ أن يعتقد البعض بأن ما يفعله فلان المسؤول حقّ له، فهو لم يرتكب عملاً فاسداً حين يتعدّى على (المال العام) لأن ذلك المال هو في الأساس (ملكٌ له) ويحق له التصرف فيه كما يشاء! وهكذا يصبح الفساد وكأنه صلاح بعينه: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).

والفساد بطبعه يخرب ضمائر الناس، وفطرتهم الصافية النقية التي فطرهم الله عليها، كما يفقدهم الغيرة الوطنية، وحسّهم الإنساني تجاه أبناء مجتمعهم، الى حد تصبح معه الدولة نهباً لكل سارق وفاسد ومرتش. ويصبح (الشاطر) هو من يغترف أكثر من المال العام، والغبي هو ذلك الذي يتعفّف عن ارتكاب المنكر!.

نحن في البحرين لدينا فساد كما في كل الدنيا؛ لدينا مفسدون ومرتشون، وسيبقى لدينا من أمثال هؤلاء ما بقيت الحياة. ونحن في الوقت الذي لا نعلم فيه (حجم الفساد) نظراً لغياب الشفافية في هذا المضمار، إلا أن الجميع يتحدث عنه (مسؤولون ومواطنون)، ويشير الى بعض صوره، ولذا نحن بحاجة الى معرفة الأرض التي نقف عليها، وهذا لا يتمّ إلا بمعرفة حجمه، وبمناقشة أسبابه، ومحاكمة مرتكبيه، وبتوفير المعلومات المتعلّقة به.

نظنّ أن الفساد في البحرين لم يخرج عن السيطرة، ولكنه قد يكون في حالة تمدّد واستشراء، ما يعرّض المشروع الإصلاحي للخطر، ويسلب من الأجهزة الحكومية الفعالية في أدائها، ويشوّه الروح المخلصة المحبّة للوطن وأهله، ويحولها الى مرض يعصف بالجميع.

مكافحة الفساد لها أولوية بلا شك، ومصادر الفساد في الأساس آتية ـ كما هو واضح ـ من أولئك الذين لهم صلة بمراكز السلطة والمال، والذين لقراراتهم وتصرفاتهم أثرٌ كبير على أفراد المجتمع وعلى مسيرة الدولة نفسها. ما نحتاجه حقاً لا يعتمد فقط على (وازع الضمير) أو (الوازع الديني) فإغراءات السلطة والمال أكبر من أن يقضي عليها هذان الوازعان.. بل نحتاج أيضاً الى:

قانون حازم. والى هيئات مكافحة بعيدة عن نفوذ المفسدين، وإلا تحوّلت هي نفسها كما لدى بلدان أخرى: الى هيئات يعشعش فيها الفساد. ليست القضية منحصرة في وجود القانون على أهميته، بل الى حزم القيادة السياسية في تطبيقه؛ والى قضاء نزيه يضرب بيد من حديد على أكفّ المفسدين، كائناً من كانوا، فالجميع تحت القانون سواء.

رقابة مجتمعية، من خلال الإعلام، ومن خلال المشرّعين.

والى ثقافة وطنيّة تنظر الى الفساد ككائن غريب ضار وخطر يترصد الجميع. إن الثقافة التي تتغاضى عن سرقة (المال العام) ولا تحترمه، ولكنها ترفض سرقة (المال الخاص)، هذه الثقافة لا تزال شائعة في بعض الأوساط، وكأنّ أموال الدولة، أو المال العام، لا والٍ له، أو كأنه ليس ملكاً للناس أنفسهم!

نحن بصريح العبارة بحاجة الى وقفة جادّة أمام غول الفساد، حتى لا يصل بنا المقام الى عدم القدرة في السيطرة عليه.