مجلس حقوق الانسان ـ جنيف

لماذا انتقل ملف حقوق الإنسان البحريني الى الخارج؟

حقاً.. لماذا نرى المعارك الحقوقية بين المعارضة البحرينية والحكومة قد أصبحت ساحتها الرئيسية في جنيف، وبعض العواصم الأوروبية؟

هل السبب يعود في الأساس الى حقيقة أن مركز الثقل الحقوقي اليوم يقع في جنيف، حيث مقرّ أعلى سلطة حقوقية دولية في العالم، ونقصد: المفوضية السامية لحقوق الإنسان؟؛ وكذلك لوجود مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، مع ما يمتلكه من صلاحيات وأدوات وإمكانيات وتأثير على الصعيد الدولي؟ فضلاً عن وجود مقرات لعدد كبير غير محدود ويتوسع لأهم منظمات حقوق الإنسان العالمية؟ وأيضاً لوجود نشاط حقوقي دائب ومستمر للدول والمنظمات الحقوقية طيلة أيام السنة؟

هل هذا السبب كافٍ لنقل معارك حقوقية محلية، بين دول ومعارضاتها الى جنيف، وربما الى بروكسل ولندن وباريس؟

الأصل هو ضرورة ان تكون في كل دولة مساحة او فضاءً من الحرية للنشطاء السياسين والحقوقيين، بحيث يمارسون دورهم ورقابتهم داخل بلدانهم.

والأصل أن تتوافر الحماية والإحترام للمجتمع المدني المحلي في كل دولة، وأن تكون هنالك مرجعية قانونية قادرة على حماية هذا الفضاء الضروري لنمو المجتمع المدني، ولترشيده، ولمشاركته حمل أعباء مسؤولية تطوير أوضاع حقوق الإنسان الى جانب الحكومة.

اذا غاب هذا الحيّز، وتقلّص فضاء حركة المجتمع المدني، وكانت العلاقة بين السلطات والمجتمع المدني لديها سيئة، او غير بناءة، أو غير تفاعلية حتى، فإن من البديهي ان تنتقل المعركة الى الخارج.

قد يحدث أن توجد مساحة فضاء للحركة داخل الدولة. وقد يكون هناك قدر معقول من القوانين الناظمة والحامية لحرية النشاط الحقوقي.. ولكن ربما لا يكون هذا كافياً بدون وجود تفاعل بنّاء، مبنيّ على الثقة، بين السلطات السياسية والمجتمع المدني.

فالمهم في نهاية الأمر، هو العمل التفاعلي الذي يؤدي الى تغيير حقوقي حقيقي؛ وليس الغرض أن تعمل السلطات والمجتمع المدني كلٌّ في مساره بشكل منفصل متواز بحيث لا يلتقيان، اللهم إلا في العام مرّة واحدة. فهذا في النهاية لا يحدث تغييراً حقيقياً، ويجعل الفاصلة بين السلطات والمجتمع المدني كبيرة، يشوبها عدم الثقة، وغياب التعاون.

بالنسبة للبحرين، لا بدّ أن تكون الأجندة الحقوقية الرسمية، متفاعلة مع أجندة المجتمع المدني، ومتداخلة، بحيث يشترك الجميع في العمل من اجل الوصول الى أهداف محددة؛ وبحيث يتعاون الطرفان دائماً من خلال المشاورات؛ وحتى من خلال الدعم المباشر؛ والمشاريع المشتركة؛ لإنجاز تطور حقوقي صحيح ومستدام.

ذلك أن المنجزات الحقوقية، لا يمكن تحقيقها ـ بالشكل المطلوب ـ من خلال السلطات وحدها. ولا من خلال المجتمع المدني ـ المنفصل عن الدولة وأجهزتها ونشاطها ودعمها ـ وحده. لا بد أن يكون هنالك تفاهم وتفاعل وتعاون، واتحاد في الرؤية، وتوافق على الممارسات للوصول الى الأهداف.

هذا لم يحدث في البحرين.

الذي حدث بالدقّة، هو أن الحكومة سمحت للمجتمع المدني بأن يتأسس، ولم تكن للحكومة أدواتها الناضجة القادرة على التفاعل والتعاون مع المجتمع المدني، الذي سمحت له بالنشاط.

كان أكبر مسؤولي الدولة في البحرين يؤملون ويتمنون، أن ينضج المجتمع المدني البحرين الوليد. لقد سمعنا في تصريحات عديدة، بمن فيهم جلالة الملك، تمنيات ان يحمل المجتمع المدني بعضاً من أعباء الدولة ومسؤولياتها، سواء في مجال حقوق الإنسان أو غيره.

وكان كل مسؤولي الدولة تقريباً، يعتقدون في بداية تأسيس مئات من الجمعيات الأهلية، بضرورة ان تكون مستقلة، وكانت الحكومة توفر بعض الإمكانات المالية لهذه المنظمات الوليدة.

لكن رغم كل هذه الآمال، فإن الحقيقة الصادمة، هي ان المجتمع المدني كان وليداً، وأن نوايا الحكومة الصادقة لم تكن كافية وحدها لإيجاد العلاقة التعاونية الصحيحة مع المجتمع المدني. كان مسؤولو الوزارة المعنية بالمجتمع المدني، بحاجة أنفسهم الى فهم آليات العمل والتواصل مع الجمعيات، وهم أنفسهم كانوا بحاجة الى نضج مثل قادة المجتمع المدني الجديد.

منذ انطلاقة المجتمع المدني في البحرين، كان الطرفان الرسمي والأهلي يعملان في فضائين منفصلين، حتى وإن كان الموضوع واحداً (حقوق الإنسان). ومن البديهي ان تترتب على ذلك الشكوك من الطرفين في بعضهما البعض، وتقلص حجم الثقة. وفي غياب اللقاءات والتعاون، تطور عدم الثقة الى تضارب وصدام أحياناً.

لهذا كله، كان من المتوقع جداً، ان ينتقل ملف الحقوقي البحريني الى الخارج. وهو لم يخرج دفعة واحدة. صحيح ان العلاقة بين المجتمع المدني البحريني المحلي مع منظمات حقوق الإنسان الدولية في الخارج أمرٌ طبيعي؛ ولكن كان واضحاً أن الإتكاء على الخارج بدأ يزداد حتى قبل وقوع أحداث 2011. اما اليوم، فقد وصلنا الى أن أي اجتماع لمجلس حقوق الإنسان في جنيف (يعقد ثلاث مرات في السنة) تشوبه معارك وصدامات، وصار معروفاً لدى رجال الأمن التابعين للأمم المتحدة، أن كل مواجهة وصدام يقع في جنيف، لا بدّ أن يكون المشاركون فيه بحرينيون.

الأمر المدهش، هو أن نشطاء حقوق الإنسان البحرينيون، يسافرون الى جنيف لحضور الإجتماعات، والقيام بفعاليات معارضة هناك، ثم يعودون الى بلدهم، فلا الحكومة تمنعهم من السفر، ولا هي تحاسبهم على ما قاموا به من نشاطات، التزاماً منها بقانون دولي يؤكد أنه على أي حكومة عدم مضايقة ومساءلة نشطاء حقوق الإنسان، بسبب نشاطهم الحقوقي، وبالأخص أولئك النشطاء الذين يتفاعلون مع آليات الأمم المتحدة ذات الصلة.

هناك من يعتقد بأن المشكلة ليست في قدرة النشطاء على التعبير عن الرأي والقيام بنشاطهم في الداخل، ليس هذا بالضرورة هو اصل المشكلة، وإنما ـ حسب هذا الرأي ـ هناك استعصاء لحل الملفات الحقوقية ـ أو بعضها على الأقل ـ في الداخل، ونقل الملف الحقوقي والصراع بشأنه الى الخارج، مؤشر لعدم امكانية الطرفين حل الأمور بالتوافق. مع ملاحظة أن الملف الحقوقي لا يمكن أن تحلّه الحكومة أو النشطاء لوحدهم.

هناك رأيٌ آخر لا يخلو من الصحة؛ فقد خطط النشطاء البحرينيون للحصول على الدعم الخارجي من المنظمات الحقوقية المشابهة، والتي تستطيع ان تتفهم رؤيتها ومواقفها. ورأوا في (الخارج) أداة استقواء على الداخل الحكومي، وهذا ما يزعج السلطات، بل هذا ما يجعلها تشكك في المنظمات الحقوقية الدولية، وهو ما يدفعها الى النظر اليها بأنها غير محايدة؛ خاصة وأن السلطات البحرينية لا تجيد استخدام اللغة الحقوقية، ولا تستخدم الأدوات الحقوقية المناسبة، فهذا عالم جديدٌ عليها، في حين أنه عالم واضح بالنسبة للنشطاء الحقوقيين، لأن لديهم علاقات قديمة مع هذه المنظمات، ولديهم خبرة في استخدام اللغة الحقوقية، كما أنهم أقدر على توظيف الموضوع الحقوقي لصالح قضاياهم السياسية.

والأكثر من هذا، فان الطرف الأضعف، وهو المجتمع المدني، يشعر بأنه بحاجة الى استجلاب دعم حقوقي خارجي وضغوط على الحكومة لتغيير مواقفها، وإن أدى ذلك الى تشويه سمعتها والمبالغة في تكبير اخطائها. زد على هذا، فإن نشطاء حقوق الإنسان، حينما وثقوا علاقاتهم مع نظرائهم في منظمات حقوق الإنسان الدولية، فإنهم يعتقدون أنهم يحصلون على مظلّة حمائية.

وعليه، لا يمكن للحكومات عامة ان تلوم معارضيها او الناشطين فيها ان اتجهوا للخارج، إلا في حال واحدة، أن ادوات التغيير متوافرة في الداخل، وأن أدوات التعاون بين المجتمع المدني والسلطات قد حققت نجاحاً، وأن المجتمع المدني قد أُشرك في النشاطات الرسمية ،وأعطي حقه في الدعم والإستقلال والحماية. أما إشراك النشطاء من اجل العلاقات العامة، مع بقاء النظرة التشكيكية فيهم وفي المجتمع المدني عامة، فهذا لا يؤدي في النهاية الا لخروج القضية الى الخارج.

فهل بذلت الحكومات ما عليها ووفرت الأجواء؟

قد يقول بعضهم نعم. ولكن اولئك الناشطين يتعمدون الإيذاء، ولا يقبلون بالوضع القائم لأنهم مسيسون ولا يلتفتون الى بناء الثقة والتعاون بين الطرفين.

هذه مسألة قابلة للجدل، والحكومة في البحرين مسؤولة عن أمرين أساسيين، بدونهما ستخرج المشاكل من حيّزها الداخلي:

الأول ـ توفير الحيّز، أي الفضاء الآمن الكافي لقيام مجتمع مدني قادر على التوسع والنمو والعطاء؛ بحيث لا يتعرض الناشطون في وجوده للاعتقالات ولا للإهمال ولا للتضييق والتشهير.

الثاني ـ أن تكون الحكومة جادّة ومبدعة في اكتشاف الوسائل من أجل اشراك المجتمع المدني وإنضاجه عبر المشاركة، واعتباره معيناً وليس صانع مشاكل. وهنا عليها أن تحتوي عدم النضج وعدم الرشد، وأن يكون صدرها واسعاً، وأن تكون سياستها استيعابية، وأن تتحمل الأخطاء بغرض الترشيد وإنجاح التجربة الداخلية الحقوقية والسياسية.